تكريم الرمق الأخير

تكريم الرمق الأخير

25 يناير 2018
+ الخط -
عند رحيل أي أديب في بلداننا العربية، يثور سؤال التكريم مجدّدا، وأنه ينبغي أن تكرمه المؤسسة الرسمية في بلده، خصوصا أن كثيرين رحلوا مهمشين منسيين في حياتهم، ولم تتذكرهم تلك المؤسسة إلا بعد رحيلهم في حفلات مديح متأخر على هيئة رثاء، لا تمثل سوى بعض العزاء لأسمائهم، وربما ذويهم وأبنائهم وقرّائهم ومحبيهم.
سئلت مرة عما سماها صاحب السؤال "ظاهرة تكريم المبدعين  في الرمق الأخير من حياتهم"، أو "عند إعلان النعي وانقطاع الرمق"، فقلت إن التكريم الحقيقي اللائق بأي أديب هو قراءة ما كتبه، وتمكين القراء من الحصول على كتبه، سواء في حياته أو بعد مماته، وهذا ما يعنيني حقا من أمر التكريم. أما الدروع والشهادات والمهرجانات، وغيرها من ألوان التكريم الاستعراضية، فلا يحتاج لها المبدع الحقيقي فعلا، فهي لا تضيف إليه ولا إلى إبداعه، ولا أعتقد أنه يستفيد منها حيا أو ميتا.
هناك ألوان من التكريم التي تُعنى بالمبدع ماديا، أي أنها تكفل له حياة كريمة، أو تساعد على ذلك. ولكن، لماذا يحتاج المبدع إلى هذا النوع من التكريم المادي؟ يحتاج إليه لأنه يعيش في بلدانٍ لا تهتم بتوفير حياة كريمة لمواطنيها، مبدعين كانوا أو غير ذلك. ففي البلاد التي تحترم مواطنيها، كالبلدان الغربية ذات الديمقراطيات العريقة، لا يحتاج المبدع، بصفته مواطنا أولا، إلى معاملةٍ مادية، خصوصا على سبيل المثال. وليس في الأمر عدالة، عندما يجد المبدع، بصفته نجما أو مشهورا، عناية خاصة به في مرضه، أو في ضعفه، أو في حاجته، ولا يجدها المواطن العادي في الظروف نفسه، على الرغم من أن هذا المواطن قد يكون أكثر إبداعا منه في مجالات أخرى، لا توفر للموهوبين والمبدعين فيها الشهرة، ولا تستجلب الأضواء الكاشفة، ولا عدسات التصوير.
أعود فأقول إن التكريم الحقيقي للمبدع، وخصوصا الشاعر أو الروائي أو الفنان على سبيل المثال يكون بنشر أعماله وتجنيبه الرقابة، وإتاحة هذه الأعمال أمام الجميع، وربما دراستها وإلقاء الأضواء عليها، وتشجيع الأجيال الجديدة على تلقيها.. أما الأوسمة والنياشين فهي غير مهمة كثيرا، سواء أتت في البدايات، أو قبيل النهايات، إلا أنها كانت مظهرا إعلاميا من مظاهر التكريم الحقيقي.
ولست مع تكريم المبدعين الشباب في بداياتهم، مهما بلغوا من نبوغ وإبداع، لأن التجربة علمتني أن كثيرين منهم يقفون عند ما يصلون إليه من حدود إبداعية، بمجرد أن يجدوا من يكرمهم وكأنهم وصلوا إلى النهاية. دعوا المبدعين الصغار يكرمون أنفسهم بأنفسهم بالإصرار على مزيد من الإبداع، وتحدي النفس في كل خطوة يخطونها إلى الأمام.
ودعوني أخبركم شيئا في نهاية المطاف عن المؤسسات الثقافية، من الظلم أن نطالبها بتكريم المبدعين، أيا كان نوعه، لأنها لم تخلق لهذا الهدف، بل لمجرد تلميع القائمين عليها ومَن وراءهم من المسؤولين. ولست أعول عليها كثيرا في هذا الأمر، على الرغم من الميزانيات الهائلة التي تخصصها لها الحكومات في الغالب، فكما تعلمون، غالبا ما تؤدي المؤسسات الثقافية الفردية أضعافا مضاعفة من المهمات الثقافية الحقيقية مما تقوم بها المؤسسات الرسمية التي تمتلئ بموظفي الثقافة التقليديين، وتحارب المثقفين والمبدعين الحقيقيين في الغالب، بحجج واهية فقط لأنهم يغرّدون خارج السرب المؤسسي العام.
تحتاج الإجابة القديمة إلى تحديثٍ جديد، بعد أن استجدت أنواع من التكريمات اللائذة وراء الأكمة، والتي اتخذت من المكرّمين مجرد أدوات.. وهذا موضوع لمقال آخر.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.