الثورات بين مطالب الداخل واستثمار الخارج

الثورات بين مطالب الداخل واستثمار الخارج

25 يناير 2018

مظاهرة ضد النظام السوري في حلب (3/4/2016/فرانس برس)

+ الخط -
تذكّر التصريحات الأميركية التي صدرت عن مسؤولين أميركيين، وهي ترحب بالاحتجاجات الإيرانية، وحق الشعب الإيراني في صناعة مستقبله، بتصريحات أميركية سابقة، توازت مع ثورات  الربيع العربي، ونعرف كلنا مآلها اليوم، بدءا من قول الرئيس السابق، باراك أوباما، إن "أيام الأسد معدودات"، إلى الحديث أخيرا عن "وجوب" حدوث الانتقال السياسي، وغيرها من التصريحات التي كانت استثمارا في الثورات، وليس دعما لها، الأمر الذي يضعنا أمام سؤال جوهري: ما هي العلاقة بين الداخل والخارج في الثورات؟ وما هو دور الخارج في نجاح الثورات أو فشلها أو تجييرها لمصلحته؟ ومن يساعدها على ذلك؟ ولم ينجح الخارج دوما في حرف الثورات عن مسارها، وأخذها نحو الثورة المضادة (مصر) أو الحرب الأهلية (ليبيا) أو حصارها (تونس)؟ وكيف يمكن لأصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير أن ينجوا من هذا الفخ، وأن يأخذوا ثورات بلدانهم نحو شطآن الأمان، أي تحقيق الانتقال السياسي المترافق مع السعي إلى نظام اقتصادي اجتماعي عادل، لتتحقق كرامة المواطن في الحرية والعيش الكريم؟

الخارج.. التهيئة للثورة وانتظارها
يتكون النظام الدولي من مجموعة من الدول (أميركا، الصين، روسيا، المملكة المتحدة، فرنسا، والاتحاد الأوروبي...) وروؤس المال التي تهمين على العالم، وهيمنتها هذه مرتبطة بقدرتها على ضبط التحولات والقوى والدول في العالم، لكي لا تتجه نحو نزع تلك الهيمنة. ولذا تعمل دوما على منع الانفجارات في الدول التي هي في محورها، وعلى تشجيع الانفجارات والثورات في الدول التي لا تسمح لها بالهيمنة، أو تعيق همينتها، أو مصالحها في العالم. ولهذا نجد أن بلدا، مثل أميركا، ضد قيام ثورة في السعودية اليوم، في حين أنه مع قيامها في إيران، في حين تحبّذ دولةٌ، مثل روسيا، قيام ثورة في الرياض وترفضها في طهران، وذلك ينطبق على كل دول المركز وفقا لطبيعة مصالحها، وما يقتضيه أمنها القومي في الحفاظ على موقعها المهيمن.
إلى جانب الدول المهيمنة عالميا، هناك دول في كل إقليم تتصارع في ما بينها على الهيمنة، 
وهي في حالة إقليمنا، إيران وتركيا والسعودية، وإن كان لا يمكن مقارنة الأخيرة بكل من إيران وتركيا، نظرا لأن للأخيرتين تاريخ عريق في الاستعمار والتوسع، وهما تحتفظان باستقلالية واسعة في إدارة شؤونهما الداخلية وسياستيهما الخارجيتين، في حين أن الرياض ليست أكثر من تابع لقوة كبرى، ومع ذلك نوردها هنا كونها تؤثر، بطريقة أو بأخرى، في الإقليم من خلال موقعها هذا، عبر محاولة سعيها إلى أخذ الثورات في الطريق الذي يحقق مصلحتها، وكلنا نعرف هنا أن الرياض هي قائدة معسكر الثورات المضادة في العالم العربي، برعاية أميركية مباشرة. وهنا أيضا، يختلف موقف هذه الدول من الثورات، تبعا لما تتوقعه من استثمارٍ فيها بما يصب في مصلحتها.
انطلاقا مما سبق، تعمل الدول الكبرى والإقليمية، على دفع الأمور تدريجيا نحو الثورة في البلدان التي تريد التدخل فيها، أو تغيير نظم الحكم فيها، وهي لا تدفعها نحو الثورة لأنها تريد لها الثورة والحرية والعدالة، بل لأن الثورات تفتح لها المجال للاستثمار والمساهمة في اختيار السلطة المقبلة التي سترعى مصالح هذه الدول. ولكن كيف يتم ذلك؟ وماذا يفعل الخارج حتى يأخذ الأمور نحو تلك اللحظة؟
1ـ العقوبات الدولية: هي واحدة من الأدوات التي تستخدمها الدول الكبرى ضد الدول التي تريد تغيير الأنظمة فيها، بغرض إضعاف النظام الاقتصادي للبلد وتدميره، وهي تدرك جيدا أن النظام لن يتأثر، بل الشعب، وهذا ما تريده بالذات، أن تزيد الاحتقان الاجتماعي الاقتصادي على خلفية المطالب المعاشية، وأن توسّع الهوة بين الشعب والسلطة. وغالبا ما تكون تلك النظم مستبدة تتحكم فيها مافيات اقتصادية، تهيمن على قوت الناس وأرزاقهم، ومن شأن العقوبات والضغط الاقتصادي أن يدفع هؤلاء الحيتان الاقتصاديين في الداخل إلى نهب الشعب أكثر وأكثر، فتصبح الأمور في الداخل على أهبة الثورة التي تبدأ، في أغلب الأحيان، على خلفية مطالب اجتماعية اقتصادية، لا تبتعد عنها المطالب السياسية بطبيعة الحال.
2- حقوق الإنسان والحريات: تحافظ الدول الكبرى على مطالبة الدول المستهدفة بتحسين وضع حقوق الإنسان والحريات، وتصدر دوريا تقارير عن حقوق الإنسان ووضع الحريات في تلك البلدان، لإبقاء تلك البلدان في "القائمة السوداء"، بغرض زيادة التحريض ضد هذه الدول. وبالتأكيد، المطالبة بالحريات وحقوق الإنسان للشعوب عادلة، لكنها هنا تصبح مجرد استثمار من تلك القوى التي تعمل عادة باتجاهين: الأول إبقاء التنسيق مع النظم المستهدفة بشكل سري، لمقايضة ملف حقوق الإنسان بملفات أخرى، كانت في حالة سورية وقف دعم حركة حماس وحزب الله سابقا، وهي في إيران اليوم الملف النووي ووقف التقدم في الإقليم. والثاني، تدريب تلك الدول لناشطين وإعلاميين على إدارة الحملات، وتأسيس مواقع إعلامية ومجموعات ضغط داخلية، لإنشاء شبكة من نشطاء سيتم العمل على استغلالها لاحقا. وهنا، يتوهم هؤلاء النشطاء، في أغلب الأحيان، أنهم يؤدون دورا وطنيا، وهم فعلا مقتنعون بهذا الدور، ومخلصون له، لكن اللعبة أكبر من أحلامهم وطموحاتهم هذه، فهم يسعون، مخلصين وجاهدين، إلى دحر الاستبداد من بلدهم، لكنهم سيجدون أنفسهم خارج اللعبة، حين ينتهي دورهم.
3 - تشكيل المعارضة الخارجية: تعمل هذه الدول على تأسيس تجمعات معارضة، تنطق باسم 
المعارضة في هذه الدول، حيث يتم تقديم الدعم المالي واللوجستي لها والمنابر، وذلك لكي تكون جاهزة لتصدر المشهد حين تندلع الثورات. ولعلنا نتذكر هنا المعارضة العراقية قبل سقوط نظام صدام حسين وبعده، وفريد الغادري في سورية الذي حاول الأميركيون تقديمه بين عامي 2005 و2007. ونتذكر اليوم المعارضة الإيرانية في الخارج. وهذا لا يعني أن كل تلك المعارضات مرتهنة وعميلة، فهي تسعى، وفق إمكاناتها السياسية، إلى أن تلعب دورا يسمح لها بإسقاط النظام في بلدانها بمساعدة الخارج، إلا أن السؤال: إلى أي حد يمكن لهذه المعارضات أن تكون حرّة، وأن تمتلك أدواتها في ظرف كهذا؟
يشكل ما سبق الأرضية والأدوات التي تجهزها دول الخارج لقطف ثمار الثورات، أو محاولة التدخل فيها، لأنها تدرك جيدا أن الانفجار قادم، فأي نظام استبدادي إلى زوال، ولا بد ستأتي لحظة يسقط من جرّاء تناقضاته الداخلية أو ثورة الناس عليه. وهنا يكون الخارج جاهزا لمد أدواته ومحاولة قطف ثمارها، من دون أن يعني ذلك أبدا أن الثورات مؤامرة أو صناعة خارجية، وفق ما تروج أنظمة الاستبداد، فما تم الحديث عنه هنا هو سعي تلك الدول وتجهيز أدواتها للاستثمار في الثورات، وهذا فعل قد ينجح وقد لا ينجح، فهو لم ينجح بعد في تونس التي لا تزال تقاوم، ونجح في العراق ومصر وسورية وليبيا، وهو ليس نجاحا قطعيا أيضا، لأن التاريخ ما زال مفتوحا، والنهاية مرهونة بقدرة القوى الثورية والوطنية في الداخل على امتلاك أدواتها والتخلص من نير المستبد، وسعي المستعمر العائد بقوة اليوم إلى استثمار تلك الثورات.

الداخل بين الاستبداد وقوى الثورة
يلعب المستبد  مع الداخل اللعبة نفسها التي تلعبها القوى الدولية مع الدول المستهدفة، فهو يعمل دائما على إبقاء هيمنته على الشعب، عبر استخدام أدوات باتت معروفة، القمع والإفساد والاستعانة بالخارج الذي يدرك (الاستبداد) أن همه لا يتركز على حقوق الإنسان، بقدر تركزه على مصالحه. لذا يعمل دوما على جعل نفسه أداةً قابلة للاستثمار ضمن هذا السياق، عبر إيجاد وظيفةٍ تخدم مصالح هذا الخارج: محاربة الإرهاب، الحفاظ على الأمن...
ردا على هذا الواقع الظالم، تنشأ المقاومة والمعارضة في الداخل، في أجواء غير طبيعية وغير قاسية. ولذا هي تحمل أمراض هذه الولادة اللاطبيعية، لكنها مع ذلك تبقى تقاوم وتناضل وتعمل على توسيع آفاق الحريات وفق ما تستطيع، عبر الدعوة إلى اعتصامات وتوقيع بيانات ونشر الوعي والدعوة إلى الإصلاح، ساعية إلى إحداث تغيير ديمقراطي آمن. إلا أن رد النظام العنيف وقمعه المستمر لا يسمحان لها بالعمل، فتبقى جزرا معزولة، وبعيدة عما يحدث في أعماق المجتمع والشعب من تحولات، بل يبتعد أغلبها عن فكرة الثورة، ويراهن على التحولات الدولية وقيام النظام بالإصلاح، نزولا عند ضغوط دولية. ولكن المهم في هذه المعارضة أنّها تراكم رأسمال رمزي لدى شعوبها، فالسجن والقمع وقول كلمة لا في وجه نظامٍ تدرك الشعوب مدى بطشه، يجعل من هؤلاء "أيقوناتٍ"، يراها الشعب من بعيد ويحترمها، لكنه لا يجرؤ على الاقتراب منها قبل مرحلة الثورة.
أما التحولات الكبرى فتجري في مكان آخر تماما، في القاع الاجتماعي الذي تزيده سياسات السلطة الاقتصادية وقمعها وسياسات العالم النيوليبرالية فقرا على فقر، فيحصل الانفجار هنا، في أكثر طبقات المجتمع فقرا، وأكثرها تهميشا، وأقلها وعيا، وهذا ما حصل في احتجاجات إيران أخيرا، وعدد من بلدان الربيع العربي. وهنا تبدأ الثورة.

في أثناء الثورة..
في اللحظة التي تبدأ فيها الثورة، نكون أمام واقع الحال التالي:
خارج جاهز للانقضاض، ولديه أدواته التي يقدمها للعمل مباشرة، فتبدأ التصريحات المشجعة، 
ويظهر المعارضون المحرضون على شاشات الإعلام، ويبدأ النشطاء بوضع معارفهم، وما تدربوا عليه، على أرض الواقع، وفي البداية يكون أمل التغيير يحدو الجميع.
من جهة أخرى، ليس لدى الأنظمة المستبدة سوى القمع والرصاص الذي توجهه نحو المتظاهرين والثوار، مدعومة (الأنظمة) من حلفائها الذين يهبّون لنجدتها وتشجيعها على القمع، وأيضا من خصومها الذين يتواصلون معها من تحت الطاولة، ويحرّضونها أيضا على استخدام العنف لزيادة مأزقها، وأخذ الأمور نحو ما يريدون.
المعارضة الداخلية، التي عاشت في ظروف غير طبيعية، تربكها اللحظة الثورية، ولا تعرف آليات التعامل معها، فلا تقدر أن تمد يدها نحو الثورة، لتسعى إلى تجذيرها، وبناء قوتها وقيادة المفقرين الذين يبحثون عن قادة لهم، لتفاوض النظام أو تقارعه من موقع قوة، فالجماهير المنتفضة تبحث عن أب وقائد، وتتوهم، في بواكير الثورات، أن هؤلاء المناضلين الذين راكموا رأسمالا رمزيا طوال مقارعتهم للنظام يمثلون هذا القائد الذي ينتظرونه. إلا أن تلكؤ هؤلاء، وعنف النظام، وهجوم معارضة الخارج، والهيمنة على الإعلام الذي يساعد على أخذ الثورات ليستثمرها الخارج... كل هذا وغيره الكثير، يدفع الأحداث نحو تجاوز هذه المعارضة التي لا تعرف كيف تمسك بهذه اللحظة، ولا تستطيع تقدير حجم الألم والتغيير الذي أصاب تلك الفئات الثائرة، والتي قطعت جذور الخوف، وتستعد للمضي حتى النهاية مهما كلف الثمن، فتستمر في ثورتها بدعم من الخارج الذي يدخلها مساربه إلى أن تتعب، وتجد نفسها وحيدة، تتخبط بين معارضة خارجية ورجال سفارات، من دون أن تتمكن من مراكمة قوة ذاتية تفاوض باسمها، إذ يتحالف (وإنْ من موقع الخصومة) النظام المستبد والخارج الساعي إلى الاستثمار، لمنع تشكّل تلك القوة الذاتية للثورة، يساعد في ذلك قمع النظام وتصفيته للنشطاء الذي يكتشفون، في لحظة لاحقة أيضا، أنهم وقعوا ضحية الدول وكذبها، فيتركوا الساحة، ليحدث الفراغ الذي تملأه قوى الإرهاب والقوى المضادة للثورات، فننتقل من مرحلة الثورة إلى مرحلة الحرب الأهلية تارة، أو حرب الوكالة عن الدولة الكبرى تارة أخرى، وفقا لواقع كل بلد وطبيعة كل ثورة.
887F9940-DD14-4E58-BE81-9009CD932F8D
محمد ديبو

باحث وشاعر سوري، من أسرة "العربي الجديد"، من أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، 2014)، خطأ انتخابي (دار الساقي، 2008)، لو يخون الصديق (2008). حاز على جوائز متعددة وترجمت بعض أعماله للإيطالية والانكليزية. له أبحاث ومقالات في الاقتصاد والطائفية.