اليسار الممانع والدولة الواحدة في فلسطين

اليسار الممانع والدولة الواحدة في فلسطين

23 يناير 2018
+ الخط -
بمجرد إعلان الكاتب الفلسطيني، سلامة كيلة، توقيع أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحمد سعدات، المعتقل في سجون الاحتلال الإسرائيلية، على وثيقة الحركة الشعبية من أجل فلسطين دولة علمانية ديمقراطية واحدة، انطلقت أصوات ممانعي اليسار عموماً، ومن الجبهة الشعبية خصوصاً، منكرة ومشككة بصحة الخبر من جهة، ومهاجمة بعنف الوثيقة والموقعين عليها وفي مقدمتهم كيلة، ورموهم بأبشع الأوصاف وأشد الاتهامات، ومنها بالطبع الخيانة، والتخوين للممانعين كما التكفير للإسلاميين، منهجا وثقافة.
كان موقف هؤلاء، خصوصا من شغل منهم موقعاً قيادياً داخل الجبهة، علاوة على رعونته وتسرعه بشكل لا يليق بأشخاصٍ مارسوا العمل السياسي والحزبي عقودا، كاشفاً مدى الانحدار الأخلاقي والثقافي لديهم، وهو أمر غير مستغرب، فمن عاشر قوم الممانعة وتعايش مع بيئة الاستبداد، وفي كنف أنظمتها، سيكتسب قيمهم وأخلاقهم مع الوقت، خصوصاً حين يكون ملحقاً ضعيفاً وهامشيا في منظومة "محور الممانعة"، الذي يشكل، إلى جانب خصمه العربي الآخر، محور "الاعتدال"، ثنائية التبعية والارتهان لمشاريع الاستعمار، التي ثارت ضدها جماهيرنا العربية، والآن تتضافر جهود المحورين لإجهاض تلك الثورات وتشويهها وتصفية نتائجها.
تتبنّى الوثيقة رؤية الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة في فلسطين، بعد القضاء على الصهيونية فكرا وكيانا عنصريا استعماريا معاديا لقيم الإنسانية، بحيث يصبح كل سكان فلسطين، على اختلاف أديانهم وقومياتهم وإثنياتهم، مواطنين فلسطينيين. كما ترفض الوثيقة قبول القيادة الفلسطينية الرسمية دولة على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، وترى أن حل الدولتين، علاوة على أنه تشريع لواقع التطهير العرقي الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني، غير قابل للحياة، لأن الدولة الصهيونية لن تقبل إلا باستعمار كل فلسطين، واستكمال مسيرة التطهير العرقي كما تثبت الوقائع كل يوم. ومع أن الوثيقة نادت بالمواطنة أساسا جامعا لكل سكان فلسطين، على اختلاف مشاربهم الدينية والقومية، أكدت، في الوقت نفسه، على انتماء فلسطين العربي، وأنها جزء من أمتها العربية.

رفض مهاجمو الوثيقة ما تضمنته، جملة وتفصيلاً، خصوصا فكرة السماح لليهود بالبقاء في فلسطين بعد تحريرها والقضاء على الصهيونية، إلا أنهم لم يتحفونا برؤيتهم لحل هذه المسألة، هل نعيد اليهود إلى البلدان التي قدموا أو قدم أجدادهم منها منذ قرن ونيّف؟ ماذا لو رفضت تلك البلدان استقبالهم؟ هل نضعهم في معسكرات اعتقال، أم نلقيهم في البحر، أو ربما نشيّد لهم غرف الغاز والأفران؟
واستنكر بعضهم أن يكون هناك طرح لإمكانية تحرير فلسطين بغير قوة السلاح، ولم تلغ الوثيقة هذا الخيار، لكنها طرحت ممكنات أخرى إلى جانبه، لكن هذه إمكانية مرفوضة من يسار الممانعة، فالكفاح المسلح بنظرهم هو السبيل الوحيد إلى فلسطين.
ليس كاتب هذه السطور في حاجةٍ إلى سوق الحجج والبراهين وعرض الأسباب للرد على هؤلاء، فهناك من وفر عليه عناء هذه المهمة منذ سنوات طويلة، وهي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نفسها، فلو كلف هؤلاء أنفسهم وقرأوا البند الأول من النظام الداخلي للحزب الذي ينتمي كثيرون منهم إليه لوجدوه ينص على أن الحل النهائي لقضية فلسطين يكون بـ"إقامة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، والتي يعيش جميع مواطنيها بمساواة كاملة بدون تمييز في الحقوق والواجبات". وبشأن هذه الفقرة، يرد، في كتاب شروحات النظام الداخلي للجبهة الشعبية الذي أقرته هيئاتها المركزية، أن إقامة دولة فلسطين الديمقراطية تستوجب "تحرير فلسطين من الصهيونية عن طريق إزالة دولة الكيان الصهيوني ككيان احتلالي عنصري، وإزالة كافة المفاهيم والمؤسسات التي قام على أساسها هذا الكيان، إذ لا يمكن تصور إقامة دولة فلسطين الديمقراطية دون إزالة دولة الكيان الصهيوني ومؤسساتها، وتحرير فلسطين من الصهيونية". من الواضح أن نص المادة الأولى من النظام الداخلي وشروحاتها أكدت على تحرير فلسطين من الصهيونية وإزالة الكيان الصهيوني، بالضبط كما دعت الوثيقة، لا إخلاءها من السكان اليهود، وهو أمر ينسجم تماماً مع الرؤية التاريخية للجبهة الشعبية، ومؤسسيها خصوصاً جورج حبش.
وبشأن الكفاح المسلح خيارا وحيدا لتحرير فلسطين، جاء في شروحات النظام الداخلي للجبهة، للمادة الأولى نفسها: "من الأهمية الإشارة إلى عدم حصر عملية إزالة الكيان الصهيوني بإمكانية واحدة ووحيدة في إطار الانتصار العسكري على العدو الصهيوني، عبر حرب التحرير الشعبية أو الحرب القومية، إذ ثمة آفاق أخرى قد تؤدي إلى إزالة الكيان الصهيوني، كتقويضه من الداخل، أو من خلال فرض حلول دولية، في حال حدوث تغيير في الظروف القائمة حالياً على الصعيدين الدولي والإقليمي".
وفي مقابلة أجرتها صحيفة السفير اللبنانية مع مؤسس الجبهة، جورج حبش، في 22 يناير/ كانون الثاني 1989، قال إنه "خلال الأربعين عاماً التي مضت، تعمق الوجود الصهيوني على الأرض الفلسطينية، هل نستطيع أن نقضي عليه بالضربة القاضية؟ إذا كان جوابنا كلا، علينا أن نجرؤ على أن نقول لجماهيرنا صحيح أن فلسطين عربية، وأنه لا تعايش مع الصهيونية والكيان الصهيوني، ولكن صحيح أيضاً أننا لا نستطيع أن نقضي على هذا الكيان بالضربة القاضية، وبالتالي، أي قيادة مسؤولة يجب أن تفكر بالمعارك التكتيكية التي، من خلال ربحها معركة وراء الأخرى، من الممكن أن نصل إلى الهدف الاستراتيجي".
تنسجم وثيقة "الحركة الشعبية من أجل فلسطين دولة علمانية ديمقراطية واحدة" مع الرؤية التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام، والجبهة الشعبية خصوصاً، لطبيعة الصراع، على أنه ضد الصهيونية حركة عنصرية استعمارية، لا مع اليهود، بمن فيهم الذين جيء بهم إلى فلسطين. لم تكن هناك مشكلة لدى الشعب الفلسطيني مع اليهود القادمين من أوروبا وباقي بقاع العالم، حتى تكشّف المشروع الاستيطاني التطهيري للحركة الصهيونية، وكان النضال الفلسطيني، منذ البدء، ضد المشروع الصهيوني، لا الوجود اليهودي، ومع انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، تبنت قواها هذه الرؤية التقدمية في جوهرها، التي ميّزت نضال شعبنا العادل والإنساني ضد الصهيونية في مقابل المشروع الصهيوني العنصري المعادي للإنسانية. لهذا وقّع المناضل أحمد سعدات على الوثيقة، على الرغم من حساسية موقعه السياسي وإدراكه
أنه لا يستطيع، وهو أمين عام للجبهة الشعبية، أن يتبنى موقفاً يتعارض مع مبادئها ومواقفها، وما كان لرجلٍ مثل سعدات أن يمهر الوثيقة باسمه، لو كان غير مقتنع تماماً بانسجامها مع تلك المبادئ والمواقف.
أما الرفاق الغاضبون، الطريف والمؤسف في آن معاً أن كثيرين منهم من أعضاء الجبهة الشعبية وقياداتها، وحضر مؤتمرا أو أكثر من المؤتمرات التي أُقرت فيها المادة الأولى بالإجماع، أي أنهم صوّتوا لصالح المادة، ثم أقرّوا شروحاتها المبيّنة أعلاه، والآن يعارضون وثيقةً تتفق مع مضمونها. فهم إما صوّتوا (تقرأ بصموا) على المادة من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التمعن فيها، فقط لأن القيادة التاريخية من وضعتها وباركتها، أو أن موقفهم الحالي مُغرِض. وأمْيَل إلى أن الحقيقة مزيج من الاحتمالين، فهم فقراء معرفياً وسطحيون إلى درجة عدم إدراك رؤية وموقف حزب هم أعضاء وقيادات فيه. وفي الوقت نفسه هم مغرضون، لأن السبب الحقيقي لمعارضتهم الوثيقة، وحملة التشنيع التي شنوها عليها، أن صاحب فكرتها ومُطلقها هو سلامة كيلة، المعروف بمعارضته النظام السوري. باختصار، لا علاقة لموقفهم من الوثيقة بفلسطين من قريب أو بعيد، ففلسطين لليسار الممانع اليوم، بحكم الأمر الواقع وحالة التبعية والذيلية التي يعيشها، أداة لخدمة نظام الاستبداد في دمشق والتوسعية الإيرانية، على الرغم من ادعائه أن دعمه هذين النظامين من أجل فلسطين وبوصلتها التي لا تفارق يد بشار الأسد وعلي خامنئي.