تونس.. خطان في سبع سنوات بعد الثورة

تونس.. خطان في سبع سنوات بعد الثورة

21 يناير 2018

من مظاهرات الثورة التونسية في العاصمة (14/11/2011/فرانس برس)

+ الخط -
مرَّت سبع سنوات على رحيل زين العابدين بن علي عن رئاسة تونس، وفراره إلى الخارج، والدخول في مرحلة انتقالية، لكن الأمور لا يبدو أنها قد تحسنت، بل بات الوضع أسوأ، سوى بعض الحريات التي فرضها التوازن في بنية النظام الجديد، ويمكن أن تكون مهدّدة على ضوء تصاعد الاحتجاجات. فالنظام الجديد يستمرّ في اتباع السياسة الاقتصادية التي بدأت منذ عهد الحبيب بورقيبة، وتوسعت في عهد بن علي، وهي التي أفضت إلى الثورة أصلاً، بالضبط لأنها أدت إلى مركزة الاقتصاد في الساحل، بعد أن بات يعتمد على السياحة والعقارات والاستيراد والبنوك، وهي القطاعات التي كانت تتوسع بشكل لافت، وفرضت تهميش "الداخل"، وبالتالي أدت إلى ارتفاع كبير في نسبة البطالة، وتوسّع مناطق الفقر، بعد أن تمركزت الثروة بيد فئة سلطوية أو قريبة من السلطة. 

أفضت الثورة إلى فرار بن علي يوم 14 يناير/ كانون الثاني، واستمرار رئيس الوزراء، محمد الغنوشي، الذي عينه، لكن اعتصام القصبة الأول فرض تغيير الأخير، وأفضى اعتصام القصبة الثاني إلى الذهاب إلى الانتخابات، بعد أن أفلح في تسمية مجلس النواب "مجلس نواب الشعب"، وربما كان هذا "الانتصار الوحيد" الذي تحقق، والذي، كما توضّح فيما بعد، أسبغ على نواب الرأسمالية والمافيات تسمية نواب الشعب. لبس النظام الجديد إذن طربوش الثورة الأحمر، على الرغم من أنه ظلّ يمثل الطبقة ذاتها التي ثار الشعب لإسقاطها. لقد رعى النظام القديم المرحلة الانتقالية التي أفضت إلى انتخابات أتت بالإسلاميين (حركة النهضة) والليبراليين (الحزب من أجل الجمهورية: المنصف المرزوقي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات: مصطفى بن جعفر) إلى الحكم، وكان واضحاً أن توافقاً يجمع بين حركة النهضة والنظام القديم الذي ظل قائماً في الأمن الوطني والشرطة والجيش وأجهزة الدولة الأخرى، وهو التوافق الذي سمح باستمرار السياسة الاقتصادية ذاتها، حيث استمرّ الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وبالتالي ظل الالتزام بشروطه قائماً. وبهذا احتلّت قوى سياسية جديدة واجهة السلطة، لكن السلطة ظلت بيد الجهاز القديم، وكان ذلك يكفي لحركة النهضة التي استفادت من وجودها في السلطة بتعزيز مواقع رأسماليتها، الرأسمالية التي تعبر هي عنها، على الرغم من جموح الحركة نحو تعزيز سيطرتها، وميلها إلى أسلمة المجتمع أداة قوة تمكّنها من أن تتحكّم بالسلطة، وتفرض منظورها.
كانت هذه الوضعية تسمح بوجود مساحة لممارسة الحرية، لهذا ظهر أن الجبهة الشعبية هي قوة 
المعارضة الأساسية، وهي التي تمثّل البديل للنظام القائم. كما ظل الحراك الشعبي مستمراً، وإنْ بأشكال أهدأ، لأن النظام الجديد لم يحقق أيّا من مطالب الشعب، لا في التوظيف ولا في رفع الأجور بشكل يناسب الأسعار، ولم يتغير طابع الاقتصاد ليبراليا متحكَّم به من صندوق النقد الدولي، ويعتمد على الاستدانة. هذه هي السنوات الثلاث ونصف الأولى بعد الثورة، حيث ظل الاحتجاج يتصاعد، وظل الميل إلى التغيير قائماً. وهي مرحلة غنية وتُظهر طبيعة التناقضات التي كانت تستعر، وتفرز القوى، بحيث يتوضّح مَنْ يطرح مطالب الشعب، ومن يدافع عن الرأسمالية المافياوية المسيطرة في الاقتصاد.
وإذا كانت الثورة التونسية قد فرضت انفجار ثورة مصر (مع أن الدعوة إلى الاعتصام يوم 25 يناير كانت سابقة لهذا الحدث)، فقد أدى انفجار الثورة الثانية في مصر ضد حكم الإخوان المسلمين إلى حراك كبير في تونس، فرض تراجع حركة النهضة، وقبولها اللجوء إلى الانتخابات مجدّدا. لقد دعت الجبهة الشعبية  إلى تشكيل جبهة إنقاذ (كما كان في مصر، الجبهة التي كانت واجهة الثورة الثانية، لكنها كذلك واجهة الانقلاب العسكري ضد الثورة)، فسارعت قوى النظام القديم إلى الانخراط فيها عبر التحالف مع حزب نداء تونس، الذي "ركب على أكتاف" الجبهة ليصبح هو الحزب الأقوى، ويصل إلى السلطة في الانتخابات. لكن "نداء تونس" تحالف مع حركة النهضة، وباتا هما السلطة الجديدة. ولم يكن ذلك مستغرباً، لأن هذا الحزب كان يريد تحييد "جماهير" الحركة، في وقت لم يكن هناك خلاف كبير في السياسة الاقتصادية، وربما بعض الاختلاف في السياسة الخارجية، كان يمكن تحييده. بينما كانت "النهضة"، التي كما أشير، لم تختلف عن النظام القديم في السياسة الاقتصادية، تريد تعزيز وجودها ووجود حاملها الطبقي، أي الرأسمالية التي تعبّر عنها.
بهذا التحالف، استمرّ تطبيق شروط صندوق النقد الدولي، وهي بالأساس تعبير عن مصالح الرأسمالية التونسية نفسها، لهذا قبلتها وما زالت تقبلها. في ظل ميل إلى الضغط الأمني أو تخويف من الإرهاب يكون مدخلاً للتشدد الأمني ضد كل حراك شعبي. وصولاً إلى قانون الميزانية لعام 2018 الذي شمل زيادة الضرائب ورفع الأسعار، والاستمرار في الخصخصة. هل كان ذلك مفاجئاً، أو غير متوقع؟ بالتأكيد لا، حيث ما زالت الطبقة المسيطرة منذ بن علي مسيطرة، وهذه سياسة تحقق مصالحها، وهي لن تتراجع عن ذلك، حتى إذا اضطرت إلى التريث مؤقتاً. وقد ظهر أن حزب نداء تونس ليس ممثلها، بل إن حركة النهضة هي ممثلة جناح منها، كما الأحزاب الليبرالية الأخرى، وعديد من "اليسار المرتد" الذي انخرط في "نداء تونس" أو في أحزاب ليبرالية أخرى.

خطان في الثورة
أشير أعلاه إلى تكتيك الجبهة الشعبية في ما يتعلق بتشكيل جبهة الإنقاذ، وقبل ذلك ما "حققته" في اعتصام القصبة 1 والقصبة 2، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن مواجهة الوضع الذي أوجدته "ثورة جانفي" فرض اختلافا كبيرا في السياسة بين أطراف متعدّدة في اليسار، على الرغم من أن كتلة اليسار الأساسية توحدت في الجبهة الشعبية.
كان السؤال هو: هل انتصرت الثورة أم أن ما حصل تغيير شكلي؟ ولا شك في أن المفقرين الذين خاضوا الثورة كانوا يلمسون، يوماً بعد آخر، أن شيئاً لم يتغيّر، وأن البطالة تتزايد 
والأجور لم تتزحزح، والتهميش باقٍ. وبدأ يظهر أن الأمور أخذت تزداد سوءاً، نتيجة الخصخصة ورفع الأسعار وزيادة الضرائب، وأن أفق العمل مسدود. لهذا كان واضحاً لها أن الثورة لم تنتصر، وأن ما جرى تغيير شكلي محدود، الأمر الذي جعلها تستمر في الاحتجاج، على الرغم من انسحاب اليسار من ساحته، من خلال الإضرابات والتظاهر وأشكال متعددة أخرى، كانت تواجه بقمع أمني، ولا مبالاة من اليسار الرسمي. إذن، شعبياً لم يهدأ الوضع، لأن الطبقات المفقرة استمرت تصارع من أجل تحقيق مطالبها التي كانت في أساس الثورة. وما دامت مطالبها لم تتحقق بالثورة لم تنتصر بالحتم، بل ما حدث هو أن النظام القديم قام بعملية التفاف كبيرة، ساعدته فيها أحزاب كالنهضة.
في صلب اليسار كان يظهر خطان. يعتبر الأول أن الثورة انتصرت، وكان الآخر يرى أن ما يجري عملية التفاف، وأن مطالب الشعب ما زالت كما هي. كانت أحزاب اليسار قد خاضت اعتصام القصبة 1 و2 من أجل فرض الديمقراطية، ووافق النظام القديم الذي كان يرى عملية الانتقال على ذلك بالذهاب إلى انتخاب "مجلس نواب الشعب"، فانتخب مجلس الرأسمالية، بشكليها الليبرالي والإسلامي. وظل هذا اليسار الذي تشكّل في الجبهة الشعبية وفياً للمسار الديمقراطي، كونه الهدف المركزي الذي يجب الحفاظ عليه، إذ من "داخل المجلس" يمكن أن تتحقق مطالب الشعب، وإذا لم يحصل اليسار على أغلبيةٍ الآن فلسوف يحصل عليها فيما بعد، أو أنه سيكون "ضابطاً" مسار المجلس، من خلال مواجهة الرأسمالية بأفخم الخطب. ولهذا عارض كثيرا من الحراك الشعبي، واعتبره يضرّ "الثورة". وهو هنا لم يطرح سوى إصلاح النظام الاقتصادي، وتكريس النظام الديمقراطي. وربما سعى إلى فرض قوانين "تخدم الشعب"، ومن ثم عارض قانون الميزانية الحالي، وطالب الشعب بالخروج إلى الشارع من أجل إسقاط هذا القانون الذي يزيد الضرائب ويرفع الأسعار. وخلال سنوات وجوده في المجلس، عمل على طرح قوانين وحلول لمشكلات المديونية والأجور وغيرها. وهو يسير، كما يبدو، نحو طرح مسألة إجراء انتخابات جديدة. هل سيحصل على نسبة أكبر مما حصل عليه في الانتخابات السابقة (15 عضوا)؟
هذه هي سياسة اليسار الرسمي المتمثل في الجبهة الشعبية التي انخرطت في المسار الديمقراطي، ولا تجد بديلاً عنه، بل إنها متمسكة "إلى النهاية" بهذا المسار. إذن، هي لا تسعى إلى تغيير النمط الاقتصادي، بل إصلاحه، فكل الحلول التي تطرحها تنطلق من وجود هذا النمط. وهي تنطلق من أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال المسار الديمقراطي، ولهذا تتمسك به.
هنا يظهر الخط الإصلاحي الذي لطالما تحدثت الماركسية عنه واضحاً، لهذا فهو تكرار للاشتراكية الديمقراطية، لكن في وضع ثوري، أي يحتوي كل أشكال الاحتقان التي تجعل الثورة ممكنةً في كل لحظة. وهذه المسألة هي التي يتأسس عليها خط آخر، ربما لم يتبلور بعد، أو ما زال ضعيفاً، لكنه ينمو في حضن الاحتقان الشعبي. حيث إن الشعب يسعى إلى تحقيق مطالبه التي تتعلق بالشغل والأجر، وتجاوز التهميش، وهذه ليس لها حلّ في ظل استمرار النمط الاقتصادي القائم. من هذا المنظور، يبدو الإصلاح مستحيلاً، ويكون التغيير الجدي للبنية الاقتصادية السياسية هو ما يجب أن يحدث، لكي تتحقق مطالبه. فليس ممكنا إيجاد فرص عمل في ظل سيطرة رأسمالية ريعية، تعتمد على النشاط في العقارات والخدمات والاستيراد والسياحة. وليس ممكنا تحقيق فائض يسمح بزيادة الأجور، وباستقرار الأسعار في ظل سيطرة هذه الطبقة. لهذا، المطلوب هو الانطلاق من ضرورة إسقاط هذه الطبقة ونظامها السياسي، وفرض بديل اقتصادي طبقي، يحقق تلك المطالب الشعبية. بالتالي، يصبح السؤال عن كيفية تنظيم الاحتجاجات وتطويرها، لكي تفضي إلى افتكاك السلطة وفرض نمط اقتصادي بديل، يسمح بتحقيق مطالب الشعب، ويؤسس لبناء جمهورية ديمقراطية يحكمها مجلس نواب الشعب.
لا تتحقق مطالب الشعب الذي ما زال يحتج ويتظاهر من أجلها إلا في ظل سلطة طبقية بديلة، تبني نمطاً اقتصادياً يقوم على الإنتاج، وليس الريع والاستهلاك، وأساسه الصناعة. وهذا يعني أن مسار الثورة هو الذي يجب أن يكون "منهج" اليسار، وأن يفضي إلى إسقاط النظام، بمعناه الاقتصادي السياسي (أي الطبقي)، وبناء نمط بديل. ولا شك في أن عمق مشكلات الشعب تدفعها إلى أن تكون جذرية في صراعها، وأن تستمرّ إلى أن يتحقق ما تطرحه من مطالب. بهذا، فإن خط الثورة هو المطابق للواقع القائم، وهو ما يفرض بلورة السياسات التي تسمح بأن تجعل الحراك الشعبي يوصل إلى افتكاك السلطة. وتشهد تونس الآن حركة احتجاج جديدة، تنطلق من المطالب نفسها التي طُرحت في الثورة: العمل والخبز والحرية، ولسوف يستمر الاحتجاج، يصعد ويهبط، إلى أن يفضي إلى تغيير جذري. لكن ذلك يفترض أن يتسيّس، أي أن يُنتج القوى السياسية التي تحمل مشروع التغيير، وتدفع الشعب لكي ينتصر.

الحراك مجدداً
لم تشهد السنوات السابقة هدوءاً في الحراك الاجتماعي في تونس، بل ظلت الاحتجاجات 
بأشكالها المختلفة مستمرة، خصوصاً أن أيّا من المطالب لم يتحقق، فالبطالة تزايدت والتضخم تصاعد، والمديونية زادت. وكما أشير، استمرّ النظام في تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي الذي كان يقوم على الخصخصة الشاملة، وتحرير العملة، وزيادة الضرائب، وتحرير الأسعار. وجاءت ميزانية السنة هذه لتفرض زيادة كبيرة في الضرائب، وفي الأسعار، الأمر الذي يوضح أنه ليس لدى السلطة سوى خيار وحيد، هو تجريف المجتمع عبر نهبه، والإيغال في النهب، بغض النظر عن النتائج. والسبب أن الطابع المالي الذي بات يحكم الاقتصاد العالمي فرض تراكماً متسارعاً في المراكز وفي الأطراف، وهي العملية التي نشهدها عيانياً في تونس في كل دول الأطراف. بمعنى أننا مقبلون على عملية نهب فظيعة، سوف تدفع معظم الشعب إلى حالة الإملاق، وتدفعه إلى حافة الموت جوعاً. وتميل السلطة، وهي تسير في هذا الطريق، إلى زيادة العنف ضد الشعب، وتشديد القبضة الأمنية على الإعلام وكل المجتمع، وكذلك التخويف من الإرهاب الذي ليس سوى صناعة النظم ذاتها. فليس من خيار أمام الرأسمالية المافيوزية الحاكمة سوى فعل ذلك كله: النهب الشديد والعنف الأشد.
في المقابل، ليس من خيار لدى الشعب سوى الاحتجاج، والاستمرار في الاحتجاج، وتطويره إلى ثورة من جديد. في هذه الوضعية، ماذا يجب أن يطرح اليسار؟ ما هو مطروح هو إسقاط قانون الميزانية، وكأن ذلك يحلّ المشكلة. وهذا تحوير للشعار الأساسي الذي رفعه الشعب: الشعب يريد إسقاط النظام. بالتالي ستزداد هامشية هذا اليسار، وسيظهر واضحاً فشل الخط الذي يراهن على الإصلاح. ... وفي الثورة، يجب أن تكون ثورياً إلى النهاية.