المجلس المركزي الفلسطيني.. شجاعة تنتظر التنفيذ

المجلس المركزي الفلسطيني.. شجاعة تنتظر التنفيذ

18 يناير 2018
+ الخط -
فعل الشعور بالغضب والخذلان فعلهما في أوساط النخبة السياسية الفلسطينية، خصوصاً في الفترة اللاحقة على قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقد تجلى ذلك على أوضح صوره في الكلمة الافتتاحية المطولة للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، ثم في البيان الختامي الصادر عن اجتماعات الدورة الثامنة والعشرين للمجلس المركزي الفلسطيني، الذي انعقد وسط ما يشبه الإجماع الوطني على ضرورة إعادة النظر في كل ما يتصل بالمسار التفاوضي، المعتمد منذ نحو ربع قرن، من المراوحة على المكان نفسه، وإجراء ما يلزم من المراجعات المؤدية إلى كسر الحلقة المفرغة من المساومات، التي أوصلت الوضع الفلسطيني إلى ما هو عليه.
وبما يرقى إلى حد الإجماع، بالنصابين السياسي والعددي، قرر المجلس المركزي (البرلمان الفلسطيني المصغر) هذا تعليق الاعتراف بإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود العام 1967، وإلغاء قرارها ضم القدس، ووقف الاستيطان، وجدد قراره السابق المتخذ في 2015 بوقف التنسيق الأمني، إلى جانب سلسلة طويلة من القرارات/ التوصيات الخاصة بمعالجة عدد من القضايا المطروحة على جدول الاهتمامات الوطنية، بما في ذلك تكليف قيادة منظمة التحرير العمل على الانتقال من مرحلة الحكم الذاتي إلى مرحلة الدولة المستقلة، والانفكاك من علاقة التبعية الاقتصادية (اتفاق باريس)، وإنهاء كل ما له صلة بالمرحلة الانتقالية من عملية أوسلو، المنتهية مدتها عام 1999.
لم تأت هذه التوصيات الملزمة نتيجة رجحان كفة الصقور في المجلس المذكور، كما يبدو 
للوهلة الأولى، أو بفعل ضغوط الشارع المطالب باتخاذ أقصى ما يمكن من المواقف المتحدية لصلف إسرائيل وعربدتها الأمنية والسياسية، وإنما أتت تعبيراً عن الحالة الذهنية السائدة لدى كتلة الوسط المركزية الوازنة، الممسكة بمفاتيح القرارات في كل من المنظمة والسلطة والحكومة والحركة (فتح)، هذه الكتلة التي يساورها حس طاغٍ بفشل الرهان الذي عقدته على خيار السلام، وكان هذا خيارها عام 1993، وتسودها أيضاً الخشية من إضاعة كل ما أنجزته من مكاسب متراكمة على طريق مشروع الاستقلال الوطني، الأمر الذي دفعها دفعاً إلى التماهي مع الرغبة الشعبية الجامحة في الاستجابة للتحدي المطروح عليها أخيرا من الرئيس الأميركي، وتحديداً في موضوع القدس.
ولعل السؤال الذي ليس له قبل، ولا بعده بعد، هو هل سيتم تنفيذ هذه التوصيات/ القرارات على أرض واقع سياسي اجتماعي اقتصادي أمني معقد، أحسب أن تفاصيله الدقيقة لم تكن غائبة عن أذهان المؤتمرين، الذين يدركون تمام الإدراك أن السلطة القائمة بالاحتلال تملك ما لا يُحصى من الأوراق والضغوط القادرة على إجهاض كل ما صدر عن المجلس المركزي، الذي اتخذ الحد الأعلى المتاح من توجهاتٍ تخاطب وجدان الفلسطينيين، وتلامس سقف أمنياتهم، بمن فيهم الغائبون عن الاجتماع لأسباب متهافتة، وذرائع مختلفة. ومضى بيان المجلس ربما إلى ما هو أكثر مما كان متوقعاً من مجلسٍ شاخ رجاله، الذين سبق لهم أن اتخذوا قراراتٍ لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
بعض ما صدر عن المجلس المركزي قابل للتطبيق في حدّه الأدنى، وبشكل مُرضٍ ومقبول، مثل تصعيد المقاومة الشعبية. وهناك ما يصعب، حتى لا نقول يستحيل تنفيذه في المدى المنظور، وهو كثيرٌ جداً، ومنه ما يتطلب بذل جهد جهيد، كي يرى النور ولو بعد حين، أي أننا، في واقع الأمر، أمام جملة من التوصيات المتفاوتة في درجة قابليتها للتحقق، وإن شروطاً موضوعية ليست في متناول اليد، وأخرى ذاتية تقتضي بذل مزيد من المثابرة والبذل، لا بد من تلبيتها بهذا القدر أو ذاك، كي يتم الشروع في وضع هذه التوصيات موضع التطبيق التدريجي الفعال. وبغير ذلك سوف تضاف محتويات هذا البيان الشجاع إلى غيرها من التوصيات والمقرّرات التي يعلو ملفاتها الغبار.
ومع ذلك كله، ينبغي الانتباه إلى أن بيان المجلس المركزي لم يغسل يديه من عملية السلام، لما في ذلك من خدمة مجانية لإسرائيل، وإنما ظل متمسكاً بها خيارا لا خيار بديلاً له، وفق كل الحسابات والتوازنات القائمة، كما لم يغلق المجلس الباب أمام المفاوضات التي شبعت تعثراً على مدى السنوات الطوال الماضية، إنما اشترط أن تجري، إذا جرت، من غير الرعاية الأميركية الحصرية، ومن دون تلك الوساطة المنحازة جهاراً نهاراً من جانب الدولة العظمى، المتماهية مع وجهة نظر غلاة اليمينيين والمتعصبين والمستوطنين في الدولة العبرية. وفوق ذلك إن تكليف المنظمة سحب الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها، مؤجل إلى أن تتهيأ الظروف المناسبة التي تُرك حسن تقديرها إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، المخوّلة توقيت اتخاذ مثل هذه الإجراءات الكفيلة وحدها بقلب الطاولة رأساً على عقب.
بكلام آخر، معظم هذه التوصيات المتسمة بالشجاعة حقاً، والمشبعة بروح التحدي المحسوب بدقة بالغة، ليست بنت ساعتها الفورية، ولا هي مدرجةٌ على جول أعمال الاجتماع الأول للقيادة الفلسطينية، المدركة حقيقة أن خياراتها القليلة أساساً يجب ألا تكون انتحارية، ولا أن تؤدي تصرفاتها الانفعالية إلى ردود فعل إسرائيلية لا طاقة للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، المكشوف مالياً، والمحاصر في واقع الأمر، على تحمل تبعاتها الثقيلة، مثل وقف توريد المتحصلات الضريبية والجمركية إلى خزينة السلطة الوطنية، تدبيرا عقابيا شاملا، سبق لسلطات الاحتلال أن قامت به في السابق، وأدى في حينه إلى وضع السلطة على حافة الانهيار دفعة واحدة.
ولم يكن محض مصادفة أن المجلس المركزي تجنب الحديث عن جدول زمني لوضع توصياته 
موضع التطبيق، ولا كان من قبيل السهو غياب أو تغييب أي كلام عن آليات تنفيذ هذه التوصيات/ القرارات، نظراً لافتقار المنظمة والفصائل والسلطة والمجتمع الفلسطيني أي روافع قادرة على النهوض بالحالة الراهنة، وهي حالةٌ هشةٌ بكل المعايير، إلى المستوى المؤهل والقادر على تغيير قواعد اللعبة، الأمر الذي يتطلب، قبل الحديث عن التنفيذ والآليات والروافع، العمل على إيجاد المقومات الذاتية، التي ينبغي إيجادها سلفاً قبل التطرق إلى موجبات خوض غمار معركة واسعة التداعيات والمضاعفات، وحدث ولا حرج عن الشروط الموضوعية التي ليست في متناول اليد على أي حال.
وبجملة أخيرة، يمكن وصف بيان المجلس المركزي الذي جاء أفضل من التوقعات السابقة على انعقاده (إلا لدى المقاطعين). إنه بيان متوافق إلى أبعد الحدود مع الحالة العاطفية المحتدة، السائدة في الأوساط الفلسطينية، أدى في ما أدى إليه إلى وضع خط أحمر أمام أي مفاوض قد يخوض في بحر عملية السلام فيما بعد، لا يستطيع بموجبه تجاوز ما استقر عليه الإجماع في أسوأ الظروف، وربما يكون هذا البيان بمثابة الضربة الفنية القاضية لما سميت صفقة القرن التي سأخذ من الآن فصاعداً اسم صفعة القرن، ناهيك عن أن وطأة هذا البيان ثقيلة الوزن على أكتاف أصحابه، قد يفتح الطريق أوسع من ذي قبل نحو إيجاد قوة دفع فلسطينية أكبر مما كانت عليه حتى اليوم، ونعني بذلك إطلاق مقاومة شعبية أصلب عوداً، وأوسع مدى، ترفدها وترافقها عملية اشتباك دبلوماسي وحقوقي على كل صعيد ممكن.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي