حوار بداية العام

حوار بداية العام

17 يناير 2018
+ الخط -
يجري، في إحدى حكايات الأميركي تشارلز شولز الضاحكة، حوار بين صديقين، يتمنى الأول فيه لصديقه عاما جديدا سعيدا، يجيبه صديقه: عام مستعمل يكفيني، عام جديد قد يكون معطوبا. .. تذكّرت هذه الطرفة الساخرة، وأنا أستقبل تهنئتك لي بالعام الجديد الذي أخشى أن يكون معطوبا، على نحوٍ لا يمكن الائتلاف معه، خصوصا وقد عرفنا أعطاب العام الراحل، وتعلمنا منها وأدمناها.
ـ أنت تعرف أننا نعيش أزمانا صعبة، يشعر الواحد منا أنه منهك، مطارد، حزين على نحوٍ أو آخر. هنا تحصل أشياء قد تؤدي بك أن تفقد عقلك، أو ربما لم يبق لديك عقلٌ كي تفقده. وفي أحيان كثيرة، يداهمنا إحساسٌ مقلقٌ بأن بلدنا ينتزع منا، ومشاهد رحيل الأصحاب والأهل في المطارات والموانئ، وكذا الذين هجروا بيوتهم أو هجّروا منها، وسكنوا الأرض المفتوحة والتحفوا السماء، وأيضا الذين غيبوا داخل السجون، أو أخرجوا منها وهم نصف أحياء. أصبحت كل هذه المشاهد أكثر توترا وأشد إيلاما، إلى درجة أن كثيرين ممن نعرف شرعوا في التفكير بأن المستقبل لم يعد بديلا أفضل للحاضر، وقد تمر سنوات مديدة، قبل أن يشعر المرء بأن ثمّة بداية لتغيير.
على أية حال، ليست صحيحةً فكرةُ أن أفضل ما في حياتنا أصبح وراءنا، والقبول بها يعني مزيدا من الحزن، ومزيدا من الخراب، ومزيدا من المرارة والمعاناة. هنا أود أن أنقل لك تجربة عاشها النمساوي، فيكتور فرانكل، الطبيب النفساني وأخصائي الأعصاب الذي عانى من الاعتقال في المعسكرات النازية، ورواها في كتابه "الإنسان في بحثه عن معنى"، يقول فرانكل لنا أن ما أعانه على تحمل كل ذاك الجحيم أنه كان يملك حلما جعله يصمم على أن يؤسس لنفسه مكانا في المستقبل. وبالتحديد كان يرافقه حلم العمل أستاذا في إحدى الجامعات، وتخيل كيف سيحكي لطلبته تجربته التي عاشها في المعسكر. كان بذلك يقصي عن ذهنه مشاهد الجحيم التي تحيط به، ويبحث في بعده الروحي عما يدفعه إلى التشبث بالحياة، في حين كان كل شيء من حوله ينذر بالموت، تلك كانت بالنسبة له حالة مواجهة، وحالة تمرّد، تعلم منها كيف يصنع مستقبله، وتجربة فردية كهذه يمكن أن تتحوّل إلى تجربةٍ جماعيةٍ لشعبٍ يواجه، ويتمرّد لصنع مستقبله، فلنتعلم نحن إذن كيف نواجه، كيف نتمرّد، وكيف نصنع مستقبلنا.
ـ لكننا، يا سيدي، لم نعد قادرين على الحلم، فقد حلمنا أن نبني لأبنائنا وأحفادنا دولة مواطنة وقانون، دولة تتجاوز حدود الطوائف والأعراق والمذاهب والعشائر، وكل ما يؤسس للفرقة والتنابز، لكننا فشلنا. تُرى، هل كان هذا الحلم كبيرا علينا، وعلى بلد عمره الحضاري ستة آلاف سنة؟
ـ لقد صبرنا خمس عشرة سنة عجفاء، ننتظر أن تحط الديمقراطية على أرضنا، وأن تكون لنا حكومة عادلة، لا تقامر بمصائرنا، ولا يمارس رجالها السطو على ثرواتنا. وفي كل دورة أيام يقال لنا إن التغيير قادم، مرة يقال إن الأميركيين أدركوا خطيئتهم، وسوف يشرعون في تصويبها، وفي إحلال طاقم جديد محل الحكام الذين نصبوهم علينا، وتارة ينثر القابضون على السلطة  الوعود بالإصلاح القريب على أيديهم، بما يكفل حماية الوطن ورعاية المواطن، لكننا نكتشف، في كل مرة، أن ذلك ليس سوى باطل الأباطيل وقبض الريح!
وها نحن في مطلع عام جديد، قيل لنا إنه سيتجاوز أعطاب الأعوام السابقة، حيث بشائر التغيير قد أينعت، وحان قطافها، وإن عهدا جديدا عابرا للطائفية سيشرق، وسوف نطوي فيه صفحات الانكسار السود، وإن برلمانا جديدا سيولد من رحم التجربة القائمة، يمثل أعضاؤه الناس المهمشين حقا، سيحول بلادنا إلى واحدةٍ من جنان الله على الأرض. لكن لا شيء يوحي بذلك، إذ ستظل الوجوه الكالحة هي نفسها تطل علينا كل صباح أغبر، من على قبة البرلمان، لتحكمنا وتتحكم فينا، ولن يكون هناك ثمّة جديد تحت شمس العراق، ولن تنفع معنا لا نصيحة فرانكل ولا غيره.
ـ لكن، دعنا نرى الواقع المر الماثل بعين أخرى، إذ هو يمثل تحديا لنا وفرصة. وعلينا نحن أن نقبل هذا التحدّي، ولسوف يجيء الوقت الذي نقتنص فرصتنا فيه للرد، والتشبث بالأمل يمنحنا القدرة على مواجهة الصعاب والتعلم منها. وعلينا أن ندرك دائما أن بلادنا فتية، وقوية، وغنية، وأن شعبنا قادر على المطاولة والمواجهة، وأحلى أغانيه لم تغنّ بعد.

دلالات

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"