لهذا يجب أن نحتفل

لهذا يجب أن نحتفل

17 يناير 2018
+ الخط -
على الرغم من ضجيج الاحتجاجات على فشل حكومات ما بعد الثورة في تحقيق تطلعات أبنائها، بعد سبع سنوات على قيامها، مازال التونسيون، ومعهم كثيرون من أبناء المنطقة العربية، يريدون الاحتفال بذكرى انتصار الثورة، ليس فقط لأنها أطلقت شرارة التغيير في عالم عربي، كادت مدارس الفكر الغربية تُجمع (سيسيولوجياً وأنثروبولوجياً) على تشخيص "عقمه ديموقراطياً"، بل أيضاً لأن تونس أغنتنا، نحن العرب، عن اللوذ بأمثلة ونماذج غير عربية (ثورة إيران الأقرب جغرافياً وزمنياً مثلاً) للدلالة على إرادة الشعوب في التغيير، وقدرتها على إسقاط أعتى الأنظمة الاستبدادية في العالم.
واقع الحال أن الثورة التونسية، وما تبعها من انتفاضات هزت أركان الاستبداد العربي المقيم، وإن لم تنجح في القضاء عليه في معظم الحالات، وإن لم تستطع أن تتجاوز بمجتمعاتها عنق الزجاجة، عندما تمكّنت من القضاء عليه. في حالات أخرى، تؤكد أن أحوال العالم العربي عموماً بعد تونس لن تعود كما كانت قبلها. وكما أن لدينا سورية وليبيا، حيث مازال القديم يقاوم الموت، وما زال الجديد يحاول أن يولد في مخاض دموي، يقارب حدود اللامعقول أحياناً، لدينا في المقابل النموذج التونسي الذي لا يجوز أن نقبل التعامل معه، كما تريد لنا بعض أوساط الأكاديميا الغربية، وكأنه استثناء الاستثناء، للتعويض عن فشلها في توقعه وقابليته للثورة.
قبل الثورة التونسية، كان يمكن لمسؤول أميركي، من وزن وزيرة الخارجية السابقة، مادلين أولبرايت، أن تتساءل باستخفافٍ عن حقيقة وجود رأي عام عربي، في معرض إجابتها عن سؤال لشبكة "سي إن إن" الإخبارية بشأن كيفية تعاطي واشنطن مع حال الغليان التي عمّت العالم العربي، نتيجة عملية "ثعلب الصحراء"، في إشارة إلى الهجوم الجوي الذي شنته الولايات المتحدة على العراق خريف العام 1998. لم يخرج كلام الوزيرة الأميركية حينها عن التصورات التي ظلت، حتى ثورة تونس، تسيطر على الدوائر السياسية والفكرية الغربية حيال المنطقة العربية.
وبعودة الذاكرة إلى الوراء، لا بد أن بعضنا يتذكّر حال الوجوم التي لفت دوائر الأكاديميا الغربية، وهي تراقب ما يحدث في منطقتنا العربية مطلع العام 2011. تساؤل وحيد تقرأه بين سطور ما صدر عنها من تحليلات وقراءات وقتها: كيف، وماذا جرى؟ (What went wrong?). سؤال يختصر حال الحيرة إزاء مشهدٍ أخذت تتهاوى فيه أفكار ونظريات تم بناؤها وترويجها عقوداً أمام العاصفة التي هبت فجأة من قلب ما ظلت تصفه مستنقع "العفن والركود".
حتى اليوم، ولسنوات عديدة مقبلة، سيبقى المهتمون بشؤون المنطقة العربية، من خبراء ومحللين وأكاديميين غربيين، مشغولين بفك "شيفرة" الثورات التي اندلعت من رحم منطقةٍ غصت كتب السياسة وعلم الاجتماع الغربية بالحديث عن ركودها وعدم أهليتها للتغيير. فالعالم العربي الذي تجنب "بنجاح" موجات التحول الديموقراطي الكبرى الثلاث، التي تناولها صمويل هنتنغتون، واجتاحت العالم بين 1828-1991، زاد، بحسب القراءات الغربية والعربية المتأثرة بها، التأكيد على عدم قابليته للدمقرطة، بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفييتي. وحتى صاحب نظرية نهاية التاريخ، فرانسيس فوكوياما، الذي قال بالانتصار النهائي للرأسمالية والديمقراطية الليبرالية الغربية، لم يبدُ متأكدًا حيال العالم العربي – الإسلامي، على اعتبار أن لديه قيماً ثقافية واجتماعية "ممانعة"، ما يجعله يقبع باستمرار خارج الحداثة وسياقها التاريخي المعاصر، كما قال في مقالة نشرها مباشرة بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001.
الثورة السلمية التي اندلعت في تونس، واتجهت شرقاً لتعم المنطقة العربية، أسقطت هذه الفذلكات الفكرية ومعها بعض أبرز رموز الاستشراق، و"خبراء" الشرق الأوسط في الأكاديميا الغربية. المهم الآن ألا نستسلم لمحاولات تقزيم هذا المنجز العظيم، على الرغم من الصعوبات التي يواجهها والتحديات التي يصطدم بها، وألا نمد حبل نجاة لهذا الفكر الذي يحاول أن ينزع عنا إنسانيتنا، لمجرد أننا ننتمي إلى ثقافة مختلفة، ويستعظم علينا أن نثور أو ننتفض من أجل كرامة امتهنت أو ظلم استفحل. من أجل هذا، يجب أن نستمر في الاحتفال بذكرى المنجز التونسي العظيم، والذي لن يكون استثناءً، على الرغم من محاولات جعله كذلك، لا بل وحتى إفشاله.