وقفات لتجديد مسار التغيير عربياً في ذكرى حراك 2011

وقفات لتجديد مسار التغيير عربياً في ذكرى حراك 2011

15 يناير 2018

آلاف المصريين يحتشدون في ميدان التحرير احتجاجاً (22/11/2011/فرانس برس)

+ الخط -
مع ذكرى انطلاق الحراك العربي في عدة بلدان عربية عام 2011، لا بد من وقفات تناقش مسائل متعلقة بالتفكير التغييري، فرضت نفسها بسبب تردّي حالات التحول نحو الديمقراطية إلى مشاريع "الانقلاب"، "عودة الدولة العميقة" وبروز "التوريث" بأشكال جديدة، إضافة إلى عامل التدخل الخارجي الذي أجهض العملية التغييرية بإدخالها في أتون "الحرب العالمية على الإرهاب"، وصولا إلى فرض "صفقة القرن" التي تظهر كيف استفاد الغرب من الحالة التغييرية لتكريس واقع غير الذي أملته الجماهير العربية التواقة للديمقراطية.
تحاول المقالة، في أربع وقفات، التطرق إلى إشكاليات بقيت بدون حل، ما انجرّ عنها انقلاب تلك المحاولات التغييرية إلى كل ما هو مضاد لحركية التحول نحو الأفضل... موجدة تردّيا يتمنى معه المواطن العربي لو أن الأمور بقيت مستقرة عند نقطةٍ محدّدة من الديكتاتورية، والفساد، وربما حتى التوريث.

الارتقاء من مرتبة الرعية إلى المواطن
يعاني الوطن العربي من خلط رهيب بين مصطلحين، اكتسب كل منهما في الأدبيات مكانة، وصار سعي نحو القضاء على أولهما، الرعية، لصالح ثانيهما، المواطن. إنه الصراع أو السعي إلى الارتقاء من مرتبة "الرعية" إلى مرتبة "المواطن".
يتضمن الفكر السياسي الإسلامي منظومة نظرية، تنظر إلى الفرد رعية في مشروع سلطوي، محوريته الطاعة في مقابل الحصول على مزايا الأمن والطعام، من دون اكتساب حق المشاركة في التغيير، أو تقديم الاقتراح، فضلا عن القدرة على تقديم الاقتراح للتغيير، أو ما يعرف في ذلك الفكر بالمشاركة في القضاء على منظومة المنكر والفساد. ولذلك، يحتاج الارتقاء من مرتبة "الرعية" إلى مرتبة "المواطن" قراءة جديدة للفكر السلطاني، وتنقيته من شوائب
التركيز على غياب التفاعل بين طرفي معادلة الحكم، ذلك أن هم تلك الكتب لم يكن التسويغ لحكم معين وفرض "الطاعة" لحاكم الزمان، وإظهاره على أنه "المفوض من الله لحكم الأمة" دون غيره، بل إنها وضعت، كذلك، أسس النقد لتلك السلوكيات السلطانية، بذكرها نصوصا من التراث الإسلامي، ومن سيرة الخلفاء الراشدين بصفة خاصة، تظهر أهمية التفاعل بين "الحاكم" و"الرعية"، في إطار منظومةٍ مسموح فيها الانتقاد والرد على الحكام، بل هناك كتب في التاريخ ذكرت فيها مواقف هؤلاء الأفراد من الرعية المناهضين لتلك السلوكيات، كما ذكرت فيها أيضا مواقف كثيرة شجاعة في محاربة الفساد، بنوعيه السياسي والاقتصادي. وقد يختصرها قول مأثور عن الصحابي الجليل، أبي ذر الغفاري، "أعجب لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يرفع سيفه"، بل هناك إجماع على أن عمر بن الخطاب، الخليفة العادل، وقف موقف المحاسب (بفتح السين) أمام أمته في المسجد، وأنه قبل مقولة خطيرة، "لو رأينا منك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا"، أي قبوله قيم المحاسبة والنقد.

المواطنة معبر لإرساء التغيير
يعتبر هذا الارتقاء المجتمعي مشروعا استراتيجيا، لا يمكن تحقيق التطور (وليس التنمية الاقتصادية فقط) إلا بتجسيده، لأن "العولمة" الآن تتضمن خاصية التفاعل، وتوزيعا عادلا، قدر الإمكان، لفوائد تلك العولمة، والمفضية إلى ظروف عيش، بمواصفات دنيا، تترافق فيها فرص التمكين من التعليم اللائق، المسكن الموفر للراحة، مرافق اجتماعية، ثقافية وصحية، توفر حدا أدنى من الخدمات للجميع، ما يعني أن الجميع يشارك في إنتاج خيرات المجتمع، كل من المكان الذي يوجد فيه، مع إمكانية الاستفادة المتاحة للكل، كل وفق قدراته وإمكانات دفع تليق بمستواه الاجتماعي، لكن مع تحديد حدود دنيا للعيش، والاستفادة من تلك الخدمات.
هناك من سمّى هذه العملية، بحق، إعادة "تشكيل للعقل العربي" على غرار ما في كتب غربية، تحدثت عن تشكيل العقل الغربي عبر التاريخ، روت المناهل التي جعلت من ذلك العقل الغربي، بوضعه الحالي، منعتقا من ربقة قيود الماضي، وسمحت له بالانطلاق في فضاء الحرية الكبير.
لا تعني عملية إعادة التشكيل التخلي عن الموروث، أو الذهاب بعيدا في تقبل الوافد إلينا من فضاء "المواطنة والحرية" بدون قيود في إطار يتجه إلى "تبيئة" مضامين المبدأين المذكورين، لنجعل منهما رافدي تقدّم، وليس رافدي نزاع مجتمعي بدون نهاية، على غرار ما وقع غداة وقوع انتفاضات الربيع العربي في بلدان عربية عديدة.
يمكن الحديث، إذن، عن عملية إرساء لموضوع "المواطنة" تمر عبر خطوات ثلاث: تحويل مشروع الارتقاء من رتبة "الرعية" إلى مرتبة "المواطن" إلى مشروع ذي طبيعة إستراتيجية، حيوية ووجودية، ثم ربط تجسيد المشروع بإرساء "حركية اقتصادية"، باستفادة مزدوجة من فضاء حرية العمل والخدمات التي تنتج عن ذلك الفضاء، لإرساء منظومة ضريبية، يتولد عنها "المواطن المنتخب" في إطار منظومة "مسؤولية مجتمعية"، وصولا، بالنتيجة، إلى إرساء المواطنة على أساس الحركية الاقتصادية، يحتاج إلى عملية "إعادة تشكيل العقل العربي" في إطار عملية "تبيئة" للتحرّر من ربقة قيود الاستبداد، لكن باحترام حدود فضاءات "الحرية" و"المواطنة" في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

التراث المحتاج إلى التجديد
"التراث الرّث"، هنا، هو الذي تجب إعادة قراءته بلغة العصـر و تحولاته، وهو تراث غني بمضمونه، ويجب النظر إليه بعين ناقدة، تأخذ في الاعتبار البيئة التي كتب فيها والعقل العربي الذي كان يخاطبه، بالنظر إلى ما طرأ من تغير في تلك البيئة، وفي عقل الفرد العربي المخاطب بذلك التراث. تعود صفة الرث إلى ضرورة إجراء مراجعة عميقة لذلك المضمون وفهمه بلغة العصر، وعقل حديث في إطار ثقافي بضوابط محدّدة جدا، تجمع بين الأخذ بالتراث والقراءة الحديثة لمضمونه، بما يناسب ثوابت ومتغيرات متصلة باللغة والعقل العربي المخاطب بالتراث. بما أن المانع الذي يذكره الأكاديميون الغربيون هو المرجعية الحضارية العربية – الإسلامية، والذي يتضمنه التراث الثري الذي تحوزه الأمة، فإن تلك المراجعة تصبح حيويةً، باعتبار التهم الموجهة لذلك التراث بأنه مرجعية للتأخر العربي- الإسلامي، إضافة إلى اتهامه بالمسؤولية عن الرفض للآخر، وترجمته العنف والإرهاب اللذين تشهدهما جغرافية العالم العربي - الإسلامي منذ عقود.

جدلية الانتقالي والثوري
يلاحظ في العالم العربي- الإسلامي استمرار التعامل مع الزمن بخوف وترقب، لتحتل التدابير الانتقالية (استمرار اجترار القديم في ثوب جديد) بدلا من التعامل مع الزمن وفق النظرة الانقلابية، أي إحداث الثورات للقضاء على القديم والاستعاضة عنه بكل ما هو جديد في حركية تاريخية تدفقية، مستمرة منتجة للتدافع الحقيقي الذي نص عليه القرآن الكريم، وحققته الحضارات المتعاقبة، من خلال القانون الذي وضعه المؤرخ توينبي، التحدّي والاستجابة، في إطار كيمياء ابتكرها مالك بن نبي، متضمنة عناصر هي: الإنسان، التراب، الزمن.
ذلك التدافع أساسه ثوري، وليس انتقاليا، بمعنى أن المسار الإنساني اتسم دائما بالتحول، وما يحمله من تغير الحال من النقيض إلى النقيض. وفسّرت النظريات التاريخ على أنه تدافعي، أي ذو قابلية تغيرية عميقة بخلفية ثورية، والحضارات (على قلتها منذ بدء الخليقة) إنما بنيت على الطابع الثوري، وليس الانتقالي.
كثيرا ما نرى هذا الطابع الثوري ماثلا في الغرب، ودليله التحول في السلطة، وفق ألفين توفلر، بالنظر إلى التقدم الإنساني، وانتقاله من حال إلى حال عبر التاريخ (زراعة واستقرار، صناعة، ثورة معرفية ثم تكنولوجيات الاتصال الحديثة)، وكلها أنتجت تحولاتٍ في السلطة عميقة، مثّلها صموئيل هنتغتون بالموجات، في حين أننا ما زلنا نجتر عبارة "فترة انتقالية" منذ موجة
الاستقلال التي كانت، في حد ذاتها، فرصةً مواتيةً لتحقيق الثورة الحقيقية، انطلاقا من تجسيد التنمية، ثم المرور إلى بناء منظومة المواطنة والانطلاق في العصرنة والتحديث اللازمين للانخراط في سياق العولمة الحتمي. ولعلّ ما يثير في العالم العربي- الإسلامي المشكلة في مواجهة هذه الجدلية أن الفكر اليساري هو من سجل الرؤية الأعمق في العصر الحديث لمفاهيم الفكرة/ نقيض الفكرة/ مركّب الفكرة، وطبقها على فترات تاريخ الإنسان، ليستنتج التقسيم المعروف: عصر العبيد/ الأسياد، الأقنان/ الإقطاعيين، العمال/ أصحاب المصانع أو البروليتاريين/ البورجوازيين.
ولا يمكن لهذا الخوف أن يزول بالكامل إلا بإنصاف الفرد العربي- المسلم، ونقله فكريا وممارساتيا (النطاق العملي الإجرائي) من وضع الرعية إلى وضع المواطن، مشاركا في الحياة في جميع مناحيها. وهذا كفيل بإحداث "الثورة" الحقيقية، وليس ما رأيناه في الربيع العربي من تقابل كل الأفكار من دون مشروع تغييري، أي بدون بديل في مواجهة صفرية، ارتدت لصالح المنظومة الاستبدادية أو نقيضها الاسلامويين، في حالةٍ استقطابيةٍ لا تصنع الثورات، بل تنتج، بصفة حتمية، الوضع الانتقالي في معركةٍ أصبحت واضحة: الاستبداد أو الإبادة على طريقة "داعش" أو "الجماعة الإسلامية الجزائرية".
وفي الختام، تطرقت المقالة إلى وقفات تتمحور حول مفردتين، تصنعان واقعنا، الرعية والمواطن. نتمكّن بتشريحهما من صنع الوضع "الثوري" لإحداث التغيير في عالمنا العربي -الإسلامي. ولعل قارئ هذه الأفكار يكون قد اطلع، هنا أو هناك، باللغة العربية، أو في الأدبيات الديمقراطية الغربية. ولعله يكون قد قرأ "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري أو ردود جورج طرابيشي، ولعله يكون، أيضا، قد اطلع على كتابات برهان غليون أو روبرت دال. وأيا كانت مطالعات القارئ، إلا أنه يكون، من خلال الأفكار السابقة، قد وقف على جدلية الواقع/ التحدّي الذي يواجه الفرد في عالمنا والتغيير: طبيعته، حجمه وغاياته المستقبلية. إنها جدلية وجودية ودونها الفوضى.
.. عندما طلعت علينا بشائر الربيع العربي لم نكن نملك مشروعا بديلا لوجود المنظومة الاستبدادية الجاثمة على صدورنا عقودا (بديلا للمشروع الاستعماري)، بل لم نكن قد فكرنا في التغيير: مفهومه، أبعاده، طبيعته الثورية، ثم طابعه الإجرائي (المجلس التأسيسي لكتابة دستور جديد، عقد اجتماعي للمواطنة، ثم انتخابات رئاسية، برلمانية ومحلية وإحلال نخب جديدة محل النخب البالية). لكل هذه الأسباب، مضافا إليها تأثيرات البيئة الخارجية، نحن بين اختيارين لا ثالث لهما، الاستبداد أو الفوضى بـ"داعش" أو بالفشل، كما جرى في أكثر من بلد عربي.
ليس التغيير وليد لحظة، نشوة أو رغبة جارفة، بل مشروعاً يتضمن تنشئة، تشكيل عقل حديث ثم غرس "المواطنة" المرتكزة على حرية الاختيار والمقابلة بين الفكرة ونقيضها في تداول سلمي، لكن برغبة مجتمعية أكيدة. ... التغيير مشروع حياة بل أجيال.