نداء تونس والنهضة.. طلاق أم حب وهيام؟

نداء تونس والنهضة.. طلاق أم حب وهيام؟

14 يناير 2018
+ الخط -
هل هو طلاق بالثلاث، لا عودة فيه إلا بعد زواج أحد الطرفين بزيجة سياسية  جديدة، أو هو طلاق إنشاءٍ، يتنازل بموجبه طرف للآخر عن مستحقاته السياسية ومغانمه الحكومية، أو حتى طلاق بالتراضي يؤدي إلى الانفصال السياسي السلس؟ ولكن يُستقرأ من الواقع السياسي التونسي أنه الطلاق المستحيل الذي سيؤدي، إن تحقق، إلى انهيار منظومة الحكم المنبثقة عن انتخابات سنة 2014 التشريعية والرئاسية.
أعلنت حركة حزب نداء تونس، في اجتماعها الوطني التحضيري في 6 يناير/ كانون الثاني 2018، في ضاحية تونس الشمالية في قمرت، والذي بحثت فيه استعداداتها للانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في شهر مايو/ أيار المقبل، عن فك الارتباط مع حركة النهضة على قاعدة التنافس، بدلا من التوافق الذي كان سائدا ولا يزال ثلاث سنوات أو يزيد. لم تكن حركة نداء تونس الحداثية الليبرالية قادرة على إعلان طلاقها، أو حتى انفصالها المؤقت عن حركة النهضة، الإسلامية العتيقة المحافظة، على الرغم من تلويحها بذلك، مبرّرة موقفها بأن "الإطار السياسي الوحيد الذي يجمعها ببقية شركائها في الحكم، بمن فيهم حركة النهضة، هو وثيقة قرطاج"، وهو الإطار الذي انبثقت عنه حكومتا يوسف الشاهد، الأولى والثانية التي تحمل اسم صفة الوحدة الوطنية، فالأمر لا يتعلق بمجرّد وثيقةٍ، يمكن التنصل من مبادئها تحت جنح الظلام، أو في وضح النهار، وإنما يرتبط بمشترك فيه خفايا وأسرار أمنية، متعلقة بكل طرفٍ يمتلكها الطرف الآخر، غنمها في أثناء ممارسته الحكم، ما بين 2011 ومطلع 2014، وارتباطات وتعهدات دولية، تولّد عنها ميثاق سياسي غليظ يربط الحزبين، ويلزمهما التقيد به، حتى يرث الحكم تشكيلة سياسية جديدة تنبثق عن الانتخابات التشريعية والرئاسية سنة 2019، لا شك أنهما يخططان ويسعيان أن يكونا من ضمن مكوناتها.
ثلاث سنوات بالتمام والكمال قضتها حركة نداء تونس متماهية متماثلة منسجمة مع حركة 
النهضة، مشكّلتين حلفا قويا يتولى الأمور في قصري السلطتين التشريعية والتنفيذية في باردو والقصبة، زيادة على الانسجام التام مع رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، الذي دعت قيادة حركة النهضة أنصارها إلى انتخابه في الانتخابات الرئاسية سنة 2014. ولم يعد يخفى على الفاعلين السياسيين التونسيين، محترفين كانوا أو هواة، أن الحكومات الأربع المنبثقة عن انتخابات 2014 التشريعية، برئاسة الحبيب الصيد ويوسف الشاهد، والمستمرّة، أثث أغلبيتها من وزراء ومستشارين كل من "نداء تونس" و"النهضة"، هذا زيادة على نصيبهما الغالب في بقية المراكز العليا في الدولة من كتاب دولة وسفراء وولاة ورؤساء مديرين عامين للمنشآت العمومية ومديرين عامين ومديرين في مختلف الوزارات، وكذلك المعتمدين. وقد بلغ بهم الأمر أن شكلوا حلفا برلمانيا أسقطوا بموجبه حكومة الحبيب الصيد الثانية، بعد أن سحبوا منها الثقة في جلسة برلمانية هوجاء عاصفة، كانت علامة فارقة على تهاوي الديونتولوجيا السياسية التونسية وسقوطها إلى القاع، بعد أن أثنوا على وطنية الصيد، وكفاءته وعفته واقتداره في تسيير الدولة، بوصفه رجل دولة بامتياز، وعددوا مناقبه وخصاله ونظافة يده، ثم قابلوا كل تلك المناقب النبيلة بعمل آثم، تمثل في سحب الثقة منه، ومن حكومته، وإحالته على التقاعد السياسي من دون مبرّر يذكر. وقد اقتضت هذا الأمر سوق السياسة الندائية - النهضوية ومغانمها التي يركض إليها رجال الحركتين، من دون الالتفات إلى ما تستدعيه المرحلة الانتقالية من تأسيس العمل السياسي، وفلسفة الحكم برمتها على قاعدة أخلاقيةٍ متينةٍ وقويةٍ لحماية التجربة الديمقراطية والمجتمعية التونسية الجديدة من الانزلاق إلى الفوضى، أو الاستبداد من جديد، فتفشل وتذهب ريحها.
شواهد كثيرة على متانة الحلف الندائي- النهضوي، وغلظة الميثاق الذي يجمعهم، من أبرزها الأغلبية البرلمانية التي يشكّلها الفريقان منذ نهاية سنة 2014، المتحكمة في مصائر الحكومات المتعاقبة، ومختلف الهيئات الدستورية المنبثقة عن دستور يناير/ كانون الثاني 2014. ومن أبرز هذه الشواهد مجموع القوانين التي ناهز عددها 150 قانونا، صادق عليها البرلمان التونسي على مدى ثلاث سنوات، وما كان لها أن تمرّر وتعرف المصادقة، لولا الوحدة الصماء الندائية - النهضوية التي وفرت لها الأغلبية النيابية لتمريرها. ومنها قانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال، بما يعني أن للحزبين رؤية واحدة لمفهوم الإرهاب والأطراف المشكلة له وخلفياته الفكرية والأيديولوجية وقواه الفاعلة. وقانون البنك المركزي الذي أعطاه استقلالية أملتها المؤسسات المالية الدولية والإقليمية، ما أدى إلى انهيار العملة الوطنية (الدينار)، وفقدانه 40% من قيمته خلال السنوات الثلاث المنقضية، من دون أن يحرك البنك المركزي التونسي ساكنا. وقانون المصالحة الإدارية الذي كان، في حقيقته، عفوا على فاسدين، وتسويقا للفساد ومهدري مال الدولة والمستفيدين منه، ومزوري مناظرات الالتحاق بوظائف الدولة، والمستفيدين بدون وجه حق من سلم الارتقاء الوظيفي وغيرهم، باعترافٍ من منظمة الشفافية الدولية.
ولعل أخطر ما انجرّ عن الحلف الندائي -النهضوي تمرير قوانين القروض التي حصلت عليها الدولة، إبّان الثلاث سنوات الأخيرة، والتي تقارب 25 مليار دينار، وأدت إلى ارتفاع حجم
 المديونية إلى أكثر من 71% من الناتج الوطني الخام، كانت في غالبها مخصّصة لسداد ديون قديمة، تحتاج العملة الصعبة من دولار ويورو لتسديدها. كل هذه الأدلة والشواهد قاطعة الثبوت والدلالة على أن الاختلاف والصراع المزعوم بين حزب نداء تونس وحركة النهضة والدعاوى لفك الارتباط بينهما مجردّ صيحات، وتُنادي للتعبئة الحزبية الداخلية، وإيهام للناخبين لتحسين المواقع التي احتلها كل حزب في مؤسسات الدولة وهياكلها الداخلية، والاستعداد للانتخابات البلدية التي اقترب موعدها. أما قضية الحداثة والعصرنة التي يتشدقّ بها الندائيون، والتشكيلات الحزبية المنشقّة عنهم، بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، والتي تميزهم عن النهضويين الماضويين التقليديين الرجعيين، فلم يعد يصدّقها أحد من العارفين بالشأن السياسي التونسي، ومتابعيه ونخبه، فهذه الشعارات الجوفاء تم استخدامها في الحملات الانتخابية والصراعات السياسية التي سبقت الانتخابات التشريعية والرئاسية، وهي اليوم شعارات ومقولات خاوية، وافتراءات مجانبة للحقيقة، بعد أن وُضعت على محك الممارسة السياسية، وأعطت نتائج عكسية.
قد يختلف الندائيون والنهضويون في ارتباطاتهم وأحلافهم الدولية والإقليمية، ما يجعل العلاقة بينهما تنتهي إلى التوتر من حين إلى آخر، بسب ضغوط حلفاء كل طرف، لكن دون ذلك، فإن تفكك تحالفهما الناتج عن طبيعتهما الليبرالية الغالبة يؤدي حتما إلى سقوط الحكومة، والعجز عن تشكيل حكومة جديدة، وتعطيل مشاريع القوانين التي تقترحها السلطة التنفيذية، برأسيها الحكومي والرئاسي، ووضع البلاد أمام خيار حلّ البرلمان وإجراء انتخاباتٍ سابقةٍ لأوانها، فالعلاقة الندائية - النهضوية لا تحتمل الطلاق، وإنما تقتضي مزيدا من الحبّ والهيام، حبّ قد يؤدي إلى الموت على مشرحة الهيام النهضوي- الندائي، وفقدان المكانة في المشهد السياسي التونسي، وفي الحكومة التونسية، فمن الحبّ السياسي ما قتل.