أستاذنا الكبير زكريا تامر

أستاذنا الكبير زكريا تامر

14 يناير 2018
+ الخط -
بكل بساطة، كان ظهور زكريا تامر في القصة السورية، في الستينيات، شيئاً يشبه "الطفرة"، أو "الصدمة". فهو لم يأتِ ضمن السياق العام للإبداع القصصي في سورية، وإنما كان معاكساً له. شخصيتان أدبيتان سوريتان حققتا ما تمكن تسميتها "ظاهرة الأديب الأكثر مبيعاً": نزار قباني وزكريا تامر.
إذا وضعتَ أمامك مقاييس التقويم، والنقد، والجمال، والبراعة، والسلاسة، فلربما تحصل على شعراء يضاهون نزار قباني، وقصّاصين يضاهون زكريا تامر، ولكنهما كانا، وما يزالان، الأكثرَ مبيعاً، الأكثر قراءة، الأكثر اهتماماً.
أحاول، وأنا لستُ ناقدا، أن أجد تفسيراً منطقياً لاحتلال زكريا تامر هذه المرتبة الأدبية المبهرة، على الرغم من وجود قامات عالية آنذاك: كحسيب كيالي وعبد السلام العجيلي وسعيد حورانية وشوقي بغدادي.. قال بعضُهم: لعلها دعاية الحزب (الشيوعي). وأقول: كان هناك قصّاصون حزبيون ملتزمون ربما أكثر منه، وكانت لهم دعاية حزبية. قال بعض آخر: إذن، السبب هو قلةُ التزامه بخط الحزب، وابتعاده عن الواقعية الاشتراكية.
أقول: هذا وارد، مع أن قصصا كثيرة لزكريا كانت قريبة من منطق الواقعية الاشتراكية.. بل إنه كان، وما يزال، الأكثر التزاماً بقضايا الشعب، والأكثر انحيازاً للفقراء والمسحوقين، بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن ما ميّزه، برأيي، هو الأسلوب (الأسلوب هو الرجل). يقول النقاد إنه ابن المدرسة التعبيرية في الأدب، صحيح طبعاً، ولكن زكريا، حتى في التصنيف الكلاسي، مختلف. زكريا مولعٌ بالصهيل، ولكن صهيل حصانه الأبيض لا يُسمع بالأذن المجردة، زكريا كَلِفٌ بالغموض، لكنه غموضٌ شفيف يُقَرِّبُ القراءَ منه زلفى، إذ إنهم يستطيعون تدريب أنفسهم على حل ما هو غائم في مساحات النصوص، وأنا أتقصّد استخدام كلمة "النصوص" بدلاً من القصص، فالنص ميدانٌ تتداخل فيه الأجناس الأدبية، وتشتبك حول الحكاية.
في لقاء أدبي واسع عقد سنة 2002 في ضيافة المعهد الفرنسي للدراسات العربية، قال الأديب الناقد محمد كامل الخطيب: هل تعلم أن زكريا تامر يراجع النصَّ الذي يكتبه عشرين مرة؟ فرد وليد إخلاصي: بل خمسين مرة. وكان زكريا منشغلاً بحديث آخر، فلم يعلق على هذه المعلومة.
في تلك الأيام، كنت أعاني من ألم مزمن في مفصل ساقي اليمنى، ولا أستطيع المشي أكثر من ربع ساعة. وفي أول رفقة لي مع زكريا تامر، مشينا في شوارع دمشق وحاراتها ساعتين، وأنا أزجر وجع مفصلي، وأستمع إلى أحاديث زكريا تامر التي لها بداية وليس لها نهاية. زكريا لا يتوقف عن الكلام، طالما وَجَدَ مَنْ يشاركه ولعه الدائم بالمشي. وأذكر أنني التقيت الأديب نيروز مالك صباحَ اليوم التالي، وحكيت له أنني مشيت مع زكريا حتى العاشرة ليلاً، فتعبتُ وعدتُ إلى الأوتيل. فضحك وقال لي: أعرف، فأنا مشيت معه من العاشرة والربع حتى الصباح.
في سنة 2009، وربما في 2010 تعرفتُ على زكريا تامر أكثر. صرتُ ألتقيه في دمشق، وكنت أذهب بسيارتي إلى بيته في مشروع قدسيا، لآتي به، ونذهب إلى نادي ضباط الشرطة في "مساكن برزة"، فنسهر هناك مع مجموعة من الأصدقاء والصديقات. وفي آخر السهرة، أوصله إلى مشروع قدسيا، مستمتعاً بسيل الأحاديث الأدبية، رفيعة المستوى التي كنتُ أوجّه دفتها حينما أسأله عن شخصٍ لا أعرفه جيداً. أقول له، مثلاً: غسان كنفاني، فيسرح في الحديث عنه، ويمرح، حتى أنقله إلى مكان آخر إذ أقول له: وحسيب؟ فيحكي عن حسيب، ثم أقول له: وعبد السلام؟ فيحكي.. وهكذا.
عودٌ على بدء: إنني أحب هذا النوع من الشخصيات الأدبية، كزكريا تامر، الذي يقول لنا بلسان حاله: أخي أنا هيك. ربما بينكم من هو أصغر مني، أو أكبر مني، أو في مستواي.. ولكن لا يوجد بينكم أحد مثلي.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...