لننظر في المرآة قبل الهزء بترامب

لننظر في المرآة قبل الهزء بترامب

12 يناير 2018
+ الخط -
على مدار الأسبوع الماضي، انشغل العالم بما جاء في كتاب الصحفي الأميركي، مايكل وولف "نار وغضب.. داخل بيت ترامب الأبيض"، خصوصا لناحية تَبَوُّءِ شخص، مثل دونالد ترامب، رئاسة أعظم دولة، في حين تثار شكوك حقيقية بشأن قدراته العقلية واستقراره النفسي. وبعيدا عن تفاصيل الكتاب، والجدل بشأنه في الولايات المتحدة، فإن ما يعنينا منه، نحن العرب، يتمثل في سؤال مركزي: هل الحكم في العالم العربي أحسن حالا؟
مع أن ترامب يمثل تحديا غير مسبوق لمؤسسة الحكم الأميركية الراسخة، إلا أن الولايات المتحدة تبقى دولة مؤسسات، وتتوزع فيها السلطة بين مؤسسات ثلاث، تشريعية وتنفيذية وقضائية. بل لا تمثل هذه المؤسسات الثلاث نفسها وحدات متجانسة، حيث تختلف فيها الآراء والتوجهات، وهو ما يجعل من السيطرة عليها من شخص واحد أو حزب ما أو تيار معين أمرا شديد الصعوبة. ولعل في عجز ترامب  عن فرض سطوته الكُلِّيَةِ على الفرع التنفيذي (نظريا خاضع له) على الرغم من محاولاته المتكرّرة، ما يؤكد هذا المعطى، من دون أن نسقط أيضا في وَهْمِ استحالة ذلك، ولكن تلك قصة أخرى. أيضا، فإن في الولايات المتحدة إعلاما يتمتع بهامش واسع جدا من الحرية، وهو على الرغم من توزع ولاءاته، يبقى رقيبا قويا على أداء الحكومة والمسؤولين، على الأقل تنافسيا. وكتاب وولف، بغض النظر عن دقة كل مزاعمه، مثال حَيٌّ على ذلك. ولكن ماذا عنَّا نحن العرب؟
لنأخذ مثالا واقعيا من الكتاب نفسه، لمحاولة مقاربة واقع الحكم الكارثيِّ عربيا، فحسب ما 
يرويه وولف، عندما كان ولياً لوليِّ العهد في العربية السعودية، تواصل الأمير محمد بن سلمان مع صهر ترامب، جاريد كوشنر، مطلع العام الماضي، أي بعد تَبَوُّءِ ترامب الرئاسة رسميا، ليعرض عليه أن يكون "رجلهم" في السعودية. واقتنع كوشنر بذلك، وأقنع ترامب الذي استقبل بن سلمان في البيت الأبيض في مارس/آذار الماضي، في خرق للبروتوكول الدبلوماسي، فالملك أو ولي عهده كانا أوْلى بالمقابلة الأولى. وانتهى الأمر بإزاحة ولي العهد السابق، محمد بن نايف، عن منصبه، لصالح ابن سلمان، بانقلاب أبيض، في يونيو/حزيران الماضي، بعد زيارة ترامب الرياض بأسابيع. وينقل الكتاب مباهاة ترامب، بعد انقلاب السعودية، بأنه وكوشنر من "هَنْدَسا" الانقلاب، "ووضعنا رجلنا في قمة الهرم".
ليست المشكلة الحقيقية في الانقلاب ذاته والاستقواء بالخارج داخليا، فهذا عربيا ليس جديدا. لكن الثمن الذي دفعته السعودية، ويدفعه العرب جرّاء هذه التصرفات باهظ جدا. ولسنا هنا بحاجة إلى التذكير بمئات مليارات الدولارات التي تعهّد بها ابن سلمان لإدارة ترامب في صفقات استثمارية وتسليحية، فضلا عن الـ75 مليون دولار التي صُرِفَتْ لاستقبال ترامب في الرياض، في مايو/أيار الماضي، كما يؤكد الكتاب، في الوقت الذي تفرض فيه سلطات المملكة 
التقشف على شعبها بحجة تراجع عائدات النفط! الأخطر هي الأثمان الاستراتيجية، إقليميا، التي تعهّد معسكر ابن سلمان بدفعها. كانت البداية بشق الصف العربي وتمزيقه، فوق ما هو ممزق، عبر حصار قطر، وفرض معادلة ألـ"مع" وألـ"ضد" في الفضاء العربي من جديد. ثمَّ التصعيد مع إيران من دون تصور استراتيجي واضح، ومن دون بناء القدرة للحد من طموحاتها وتوسعها إقليميا. المفارقة أن السعودية تريد تصعيدا "سُنِّياً" مع "إيران الشيعية" في الوقت الذي تضعف فيه المحور "السُنِّيَ" وتشتته. ولعل في مهزلة إقالة رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، واستهداف جماعة الإخوان المسلمين، ما يغنينا عن الاستطراد هنا. وكانت ثالثة الأثافي في اعتبار إسرائيل حليفا في الصراع مع إيران، ومحاولة إرغام الفلسطينيين على التنازل عمّا تبقّى من حقوقهم الثابتة في أرضهم. وهذا كله من أجل أن يصل محمد بن سلمان إلى الحكم.
ما سبق مثال واحد يعبّر عن إحدى صور بؤسنا العربي. وإذا كانت فضائح ترامب وفظائعه المفترضة تجد من يسعى إلى كشفها، والتحقيق فيها، ومحاولة لَجْمِها أميركياً، فإن فضائح النظام الرسميِّ العربي وفظائعه لا يجرؤ غالب العرب حتى على الحديث فيها. بل إن صحفيين ومحللين سياسيين عربا كثيرين يشعرون بالخزيّ، وهم يكتبون أو يعلقون على فضائح ترامب وقدراته النفسية والعقلية، من دون أن يقدروا على أن يقولوا شيئا عن فضائح حكام عرب كثيرين، وعن قدراتهم النفسية والعقلية. ترى كم من حاكم عربي، مضى أو حاليٌّ، عانى ويعاني أمراض الشيخوخة، وتغنّينا ونتغنى بحكمته ورجاحة عقله؟ وكم من زعيم عربي كان فيه مَسٌّ من جنون، وأسيل مداد كثير وضيّعت ساعات طوال في الحديث عن "عبقريته"؟ وكم من زعيم غامر بالأمس، أو يغامر اليوم، بمستقبلنا، نحن الشعوب والأمة العربية، ومع ذلك تصفق له الغالبية؟
قبل أن نطلق مدافعنا صوب سفاهات ترامب وحماقاته، وقبل أن نُسَلِّي أنفسنا بترّهاته، فلنتمعن في المرآة، وننظر داخليا، لأننا سنكتشف أن أكبر سفاهات وترهات موجودة عندنا. قد لا نجرؤ نحن على قول إننا أكبر تراجيديا حَيَةٌ اليوم، لكن العالم كله يعرف ذلك ويراه.