إلى إيران وغيرها: الكرامة ليست خبزًا فقط

إلى إيران وغيرها: الكرامة ليست خبزًا فقط

12 يناير 2018

إيرانية تتظاهر أمام سفارة بلادها في باريس (4/1/2018/Getty)

+ الخط -
بين شامتٍ بالحراك الشعبي الإيراني ومهلل له، تنأى المفاهيم أكثر عن الإدراك، وعن الوعي العام في منطقتنا العربية التي تعيش تحت رحمة الزلازل والهزّات بدرجات مختلفة، لكنها عنيفة من دون شك. انقسم الشارع، السوري بخاصة، بين مؤيدين لهذا الحراك نكاية بالنظام الإيراني المساند للنظام السوري، والمشارك في العمليات العسكرية، بدوافع لم يبقَ في وعي الغالبية مجال لفهمها بغير الفهم الطائفي، وآخرين يستنكرون معتبرين أن الحراك مؤامرة على الدولة الإيرانية نظامًا وشعبًا. لم يرقَ مستوى التحليل والفهم إلى مستوى الحدث، مثلما هناك خطاب رسمي لدى دول عديدة يشجع الشعب الإيراني للاستمرار بمظاهراته من أجل الحرية والديمقراطية، بينما تمارس تلك الأنظمة المشجعة القمع والاستبداد والتضييق على الحريات، بطرقٍ لا تقل عن النظام الإيراني، وربما تتفوق عليه، لكنها تبني مواقفها على أساس العداوة القائمة بينها وبين الكيان الإيراني القائم أساسًا على حساسيات طائفية عريقة. 

الانتفاضات الشعبية مؤشّر حيوي، وعندما ترنو إلى أن تكون ثورةً فهذا دليل حياة، وهو من حقوق الشعوب، لأن الحرية بحد ذاتها مطلب وحاجة ضرورية للحياة، بل هي الوجه الحقيقي لها بفطرتها الأولى، فالمطلب الأساس للشعوب هو الحرية والكرامة، بل الحرية التي تحفظ الكرامة وغيرها من حقوق الإنسان.
تشهد الدول الغربية باستمرار مظاهرات شعبية، تحرسها الشرطة وعناصر حفظ النظام، وقد تحدث فيها أعمال شغب، يمكن أن تتطور إلى عنفٍ بدرجة ما، لكن هناك حدودًا لتلك 
الفعاليات، ليس لأن الأنظمة في تلك الدول أكثر ديمقراطية فقط، بل لأن ثقافة الديمقراطية صارت مفهومًا شعبيًا تعرف أي شريحة من الشعب أن تمارسه وأن تعبر عن مطالبها من خلاله، فهناك انتخابات لمرشحين، ينتمون إلى أحزاب وقوى سياسية عديدة، لها برامجها وأجنداتها ووعودها لناخبيها، والناخب يعرف أن هذا السياسي الذي منحه صوته، الذي هو أول حق في حقوق الإنسان، سوف يتابع أداءه، ويحاسبه إن أخطأ. كذلك تقيم الحكومات وزنًا للمطالب الشعبية، وتعرف كيف تتدارسها وتطرح الحلول إلى التصويت، ويعرف الشعب أن القرارات لا تؤخذ بمعزل عنه. لذلك، العملية الديمقراطية رافع استقرار تلك الدول والمجتمعات، وهي سندها ودافعها في مسيرة التطور، حتى المثليون الجنسيون الذين يشكلون حقيقة لا يمكن نكرانها حصلوا على كثير من حقوقهم، عن طريق الحراك السلمي والتظاهر والتعبير ورفع المطالب ورصد المؤيدين من الناخبين والمرشحين.
لماذا لا نسمع خطابًا عن المؤامرات الخارجية في تلك الدول أمام الاحتجاجات الشعبية؟ ولماذا هذا الخطاب هو الرد المباشر على أي حراك في منطقتنا التي تعاني من كل أشكال القمع؟ والمؤامرة حقيقة لا يمكن تجاهلها، فهي ظاهرة سياسية تاريخية لم تنجُ منها ثورة أو حركة تغيير، لكن المؤامرة حركة انتهازية، تستغل الثغرات ونقاط الضعف لدى الأمم، فتدخل من خلالها لتحقيق مصالحها ومطامعها. السبب موجود وراسخ بقوة في التركيبة البنيوية لهذه الأنظمة، ليس السياسية فقط، بل الاجتماعية والدينية والمعرفية وغيرها، الأنظمة الشمولية التي تقوم على إعدام الفردية، وتحويل المواطنين إلى رعايا يسوقهم النظام بالقوة والهيمنة والاستبداد. صحيح أن نسبة المشاركين في اقتراع الانتخابات الرئاسية في إيران أخيرا، كانت 73%، وفاز حسن روحاني بنسبة 56% من الأصوات، وكانت انتخابات تنافسية إلى حد ما، وديموقراطية قياسًا بالتي يحصل فيها المرشح الوحيد في بعض الدول العربية، ومنها سورية، على نسبة أصوات تفوق الـ 99%، إلاّ أن هناك نظامًا عميقًا يتحكّم في كل مفاصل الحياة الداخلية والخارجية، فالحرس الثوري هو وحدة خاصة في الجيش لها إمبراطورية اقتصادية كبرى. وهناك نظام أمني سياسي، ومؤسسة دينية قوية وطاغية. وقد وجّه الرئيس روحاني خطابه إليهم في حملته الانتخابية، ليكسب مزيدًا من الأصوات، مثلما قال في مؤتمر انتخابي في مدينة همدان "إلى هؤلاء الذين لم يفرضوا إلا الحظر في السنوات الماضية... من فضلكم، لا تنطقوا كلمة حرية، لأن ذلك عار على الحرية"، لكن أعضاء البرلمان الذين يفترض أن يمثلوا ضمير الشعب، ويكونوا صوته المطالب، فإنهم ينقسمون إلى تكتلين رئيسين: أحدهما يؤيد أجندة معتدلة، والآخر يتخذ موقفًا متشددًا.
لذلك، عندما أبرم روحاني اتفاقًا مع قوى عالمية بشأن البرنامج النووي الإيراني في مقابل رفع العقوبات، أخذ الشعب الإيراني يحلم منتظرًا منه تحقيق وعوده، لكن الفوائد الاقتصادية المباشرة لرفع العقوبات تأخرت، والتغيير الاجتماعي الذي كان مرجوًا منه لم يحصل، وإن حصل فهو ببطء شديد لا يكاد يُلحظ.
في الأنظمة الاستبدادية عندما ينطلق الناس في فورة غضب، للتعبير عن مطلبٍ يبدو أنه الأساس، تكون تلك الفورة بمثابة شعلةٍ سوف يمتد حريقها، إذ هذه هي طبيعة الانتفاضات والحركات الاحتجاجية لدى الشعوب، خصوصا التي مرّ عليها زمن طويل تحت رحمة نظام مستبد سياسي وديني واجتماعي، سوف تلتحق المجموعات التي تعاني من الاضطهاد، أو التي تشعر بالمظلومية شيئًا فشيئًا إلى الاحتجاج الأولي. وسوف يتضخم عدد المتظاهرين، ولكل مجموعة سببها المباشر، فالكرامة شعور أصيل لدى البشر، حتى لو كان فطريًا، لكن كل أشكال القمع اعتداء صارخ عليها، يمكن لكل أشكال المظلومية أن تحثّه على الصراخ، حتى لو كانت مظلوميةً قائمة على العصبيات المعيقة لمسيرة التقدم. لكن عندما يكون هناك وعي ثوري، وهذه مهمة الأحزاب والنخب، يمكن أن تحتوي الحراك الشعبي وتوجهه.
فإذا كان الناس قد خرجوا إلى الشوارع، للتعبير عن غضبهم إزاء التضخم، وما اعتبروه فشل 
الرئيس حسن روحاني في الوفاء بوعده بالازدهار الاقتصادي، بعد أن أملوا في أن يؤدي الاتفاق النووي الذي أبرم في عهد رئاسته الأولى مع القوى الدولية إلى إنهاء عزلة إيران، وإلى تدفق الاستثمار الأجنبي، وتوفير فرص عمل تخفف من البطالة التي وصلت نسبتها إلى 12,5%، فإن دائرة المطالب قد اتسعت، وهذا طبيعي ومتوقع من شعبٍ عانى من نظام متغلغل في أدق تفاصيل حياة مواطنيه، ليس عبر التوعية والقوانين، بل عبر مؤسساته المستبدة، خصوصا المؤسسة الدينية، وليس نزع بعض النساء الإيرانيات حجابهن، والنزول إلى المظاهرات، إلاّ دليلاً على هذا المطلب، أو الشعارات التي ردّدها المتظاهرون: "لا نريد جمهورية إسلامية".
ليست الكرامة لقمة خبز فقط، إنها قبل كل شيء: حرية. حرية أن يكون للإنسان صوته، وكلمته، ورأيه، وموقفه، وميوله ورغباته، ومساهمته في القرارات المتعلقة به، ضمن دولةٍ يرتبط معها بعقد اجتماعي، تقوم على أساس المواطنة الفاعلة والفعلية، دولة المؤسسات والقانون. وعلى الأنظمة التي تدّعي الوطنية أن تردم الهوة بينها وبين شعوبها حتى لا تفتح أبوابًا للـ "مؤامرات"، إذ ليس من قوة غير قوة الشعب، عندما يقف إلى جانب حكوماته، ليكون سدًّا منيعًا في وجه المؤامرات التي تسارع تلك الأنظمة إلى تحميلها مسؤولية أية انتفاضة شعبية، وإلاّ فإن المستقبل لا يبشر إلاّ بالدمار، خصوصًا في عهد رئيس أعتى نظام في العالم يتباهى كمراهق أرعن بأن "زرّه" النووي هو الأكبر.