مائة عام من الخديعة

مائة عام من الخديعة

11 يناير 2018
+ الخط -
(1) 
يروي دبلوماسي عربي، عمل في بلاد عربية في المغرب العربي، أنهم هناك يتداولون نكتةً سوداء، تقول إنهم في زمن الاستعمار كان السؤال الجاري على لسانهم: متى ينتهي الاستعمار؟ حتى إذا استقل القوم، ونعموا بعهد الاستقلال، صار السؤال الشائع على ألسنتهم: متى ينتهي الاستقلال؟ هي تبدو نكتة، لكنها تختصر مجلداتٍ وكتبا وبحوثا كثيرة، وتظهر باختصار سر خيبة الأمة، في المائة عام الأخيرة، بعد أن تخلص معظم أقطارها من الاستعمار المباشر، و"نعمت" باستقلالٍ ملتبس، وكثرت في بلاد العرب الأعلام الوطنية والأناشيد وحرس الشرف، والجيوش، بعد أن كان يجمعها علم واحد، وجواز سفر واحد. وليس مهمّا هنا الالتفات إلى الأراجيف التاريخية التي تصف ذلك العهد العثماني بـ "الاستعمار"، فقد ثبت تهالك تلك الخرافات وتهاويها، وحتى لو كان استعمارا كما يقولون، فهو استعمار أفضل من استقلال لا يعني شيئا.

(2)
يبدو أننا اليوم نعيش بداية نهاية المائة عام من الخديعة، والمبشّرات ببدء عصر عربي جديد كثيرة، وهي ليست من باب قراءة الفنجان أو الضرب بالودع، بل تستند إلى رؤى علميةٍ حقيقية، كما أنها ليست رؤية رغائبية ترتبط برغبةٍ داخليةٍ في أعماق كل منا بالانتقال من الحال الأسوأ إلى الحال الأحسن. لا أحلم، ولا أجمّل الواقع القبيح، في القول إننا على مشارف زمن عربي جميل، كامل البهاء، خال من الكذب والدجل والعنتريات الفارغة، زمن لا يخجل فيه أناس من الصراخ في وجه إخوة لهم قائلين: "أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ 
يَتَطَهَّرُونَ". وهذه قمة الصراحة، والانسجام مع الذات، حين تعجز عن التعايش مع العفاف والنقاء والصفاء والفضيلة، ولا تخجل من المجاهرة بكراهية الطهارة، وتفضيل النجاسة عليها، وهذه مرحلةٌ متقدمةٌ من مراحل الانسجام مع الذات، وتمزيق الأقنعة، والإسفار عن الوجه الحقيقي، لصاحب مثل هذا الموقف، بعد أن أمضى زمنا طويلا وهو يدّعي الطهر والعفاف والتقى، وهو غير ذلك. ومعنى إسفاره عن حقيقته أن زمن الخداع ولى، فلم يعد الناس ينتظرون منه حمايتهم، أو صد أعدائهم عنهم، أو تحرير فلسطين، ومنع الصهاينة من هدم الأقصى، وتخريب القدس الشريف، وكل هذا يعني، في النهاية، أن على كل من يريد أن يعيش كريما معزّزا موفور الكبرياء أن "يدير باله ع حاله"، ولا ينتظر نجدة من أحد، فلا يجلس في البيت مترقبا الفرج، يحتل الخبر الأول في نشرة أخبار التلفزيونات الرسمية، فمثل هذا الخبر لن يأتي، وبالتالي لا جدوى من الانتظار، وكل واحد يقلع شوكه بيده.
(3)
ثاني المبشرات، حين يتوحد خطاب الأعداء مع خطاب من كنت تظن أنهم إخوانك، يعني في الزمن الماضي، زمن الانحطاط العربي، كنت تسمع إذاعة إسرائيل تردح ضد المقاومة، وتسمي الفدائيين مخربين وإرهابيين. في وسعك اليوم أن تسمع هذه الأوصاف للفدائيين أنفسهم، من إعلام من محطات تلفزة ووكالات أنباء تصدر من بلاد عربية قحّة، وبلغة عربية سليمة، لا تشوبها خاء تحتل مكان الحاء. وهذا يعني أن عصر الكذب ولى، ومن اليوم لا يوجد إلا الصراحة، وكشف مكنونات الصدور، بكامل أحقادها وسوادها وقبحها. يعني أنت، يا مواطن، يا بسيط، لم يعد ثمّة من مجال للضحك على ذقنك، وإفهامك أن هناك فرقا بين خطاب شلومو وسليم، أو موشيه وموسى، فيا مرحبا بزمن الصراحة والوقاحة، وانهيار الأقنعة والأكاذيب وخطابات النصب والدجل. زمن عربي جميل فعلا، يعرف الجاهل قبل الذكي الفصيح من عدوه ومن أخوه وصديقه، بعد أن انقسم الناس إلى فسطاطين، لا لون رماديا بينهما..
فيا مرحبا بالزمن العربي الجديد، الجميل، ونهاية مائة عام من الخديعة.
(4)
إلى هذا وذاك، ثمّة طاقة أمل أخرى، فالحيرة والخوف والقلق والأمل وعدم اليقين كلها مشاعر تسيطر على الملايين من أبناء هذه الأمة، وهم يرقبون ما يجري حولهم، حتى دهاقنة السياسة والتفكير الاستراتيجي والمحللون والكتاب، لا يقلون عن العامة شعورا بالقهر والضبابية والعجز عن التنبؤ بالمستقبل، فما يحدث، كما يبدو، أكبر من كل توقع، وما يستجدّ يوميا أكبر من القدرة البشرية على الاستيعاب. وفي ذروة هذه المشاعر المختلطة، ننسى حقيقة بسيطة
‏واجهت مريم ابنة عمران موقفاً صعباً، ومع ذلك قال لها الله كُلي واشربي وقري عيناً، فعش حياتك، ولا ترهق نفسك بالتفكير، حينما يتعسّر الخروج من المأزق، فالله عنده حسن التدبير. .. ليس هذا استسلاما للهزيمة، أو تسليما بوهم، هذه عقيدة، فحين تغلق أبواب الأرض كلها، يبقى باب السماء مفتوحا، حتى قبل أن يُطرق.