صفعة للقوة الناعمة الأميركية

صفعة للقوة الناعمة الأميركية

02 يناير 2018
+ الخط -
عندما تسلم دونالد ترامب منصبه رئيساً للولايات المتحدة في يناير/ كانون الثاني 2017، لم تكن صورة أميركا في العالم، خصوصاً في البلاد العربية والإسلامية، في أفضل حالاتها، على الرغم من الجهود التي بذلتها إدارة سلفه، باراك أوباما، لتحسين تلك الصورة. لكن السياسة الخارجية التي يتبعها ترامب عامّةً، وانحيازه المفرط لصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقراره الاعتراف بالقدس "عاصمة" لها، وإصراره على انتهاك القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وابتزازه الدول التي لا تساند ذلك القرار بشأن القدس، كلها عوامل تساهم في تكريس صورة سلبية لأميركا، وتعزّز، كما يتوقع بعضهم، مشاعر العداء ضدها في أوساط الرأي العام الفلسطيني والعربي.
حاولت إدارة أوباما، بواسطة وسائل الإعلام التقليدية والرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال أنشطة تندرج في خانة الدبلوماسية العامة، إشاعة صورة إيجابية عن أميركا بعد تنامي العداء لها بسبب سياسات إدارة الرئيس الجمهوري، جورج بوش الإبن، في العراق وعموم منطقة الشرق الأوسط. فبعد اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، غدت الولايات المتحدة في حاجةٍ إلى معالجة أسباب كراهيةٍ تدفع من يشعر بها إلى تخطيط مثل تلك الهجمات الإرهابية وتنفيذها، وتهديد الأمن القومي الأميركي. لكن تمسك إدارة بوش بمقولة: "هم يكرهوننا لما نحن عليه وليس لما نقوم به"، كما ورد في كتاب غسّان سلامة، "أميركا والعالم، إغراء القوة ومداها"، جعلها تتصرّف على أساس حساباتٍ خاطئة. هكذا، بعدما كان التضامن العالمي واسعاً مع الولايات المتحدة عام 2001، تجدّد شعور الامتعاض منها، لا سيما بعد غزوها العراق عام 2003. وبدلاً من تراجع العداء لأميركا، تعمّق أكثر. لذلك، ارتكزت إدارة أوباما على قاعدة أن القوة العسكرية تعزّز النفوذ الدولي للولايات المتحدة، لكنها لا تساهم في كسب "عقول وقلوب" الجمهور الأجنبي. وأعطت بالتالي حيزاً واسعاً لمفهوم "القوة
الناعمة" الذي نظّر له جوزف س. ناي، في كتابه "القوة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية"، وكتاباتٍ أخرى. بات المطلوب ليس تعزيز النفوذ وحسب، بل قدرة الجذب لدى أميركا. تتعاظم جاذبيتها إذاً كلما زادت نسبة انشداد الجمهور لثقافتها، وكلما ارتفعت نسبة الجمهور الذي يتشارك قيمها السياسية ويساند سياساتها العامّة. أما إذا كانت سياستها الخارجية مجحفةً وغير مشروعة، في نظر الجمهور، سيرتد ذلك سلباً على صورتها وصدقيتها، وستضعف جاذبيتها.
على الرغم من ذلك، ومع أن أوباما وُصِفَ "رئيس القوة الناعمة"، إلا أن أداءه اتسم بمفارقات. فاستخدام "الطائرات من دون طيار" في اليمن مثلاً، وهو ما تسبب بسقوط ضحايا في صفوف المدنيين، ولو بالخطأ غير المتعمّد، فاقَمَ نقمة الرأي العام على السياسة الأميركية التي أظهرت أن الأفعال تتنافى مع الأقوال، لا سيما مع ما قاله أوباما في "خطاب القاهرة" عام 2009، ودعوته إلى بناء علاقات مبنية على "الاحترام المتبادل" بين بلاده والعالمين، العربي والإسلامي. وعلى الرغم من كل الإيحاءات والادعاءات بأن إدارة أوباما تساند حقوق الفلسطينيين، وتلميح الرئيس السابق في ذلك الخطاب إلى أنه يدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة، إلا أن صورة أميركا في عهده ظلّت صورة لاعبٍ يفتقد الصدقية في ما يتعلق برعاية عملية السلام وحل القضية الفلسطينية. صحيح أن أوباما، في نهاية ولايته، لم يعرقل صدور قرار مجلس الأمن الدولي 2334، في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2016، والذي يطالب إسرائيل بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 بما فيها القدس الشرقية، ويعدّ إنشاء المستوطنات انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، وعقبة كبرى أمام تحقيق حل الدولتين وإحلال السلام العادل. لكن تصرف أوباما كان أقرب إلى محاولة لحفظ ماء الوجه، ولم يعوّض عن تقاعسه بشأن تحقيق الحل العادل للقضية الفلسطينية، والذي لن يُبصر النور إلا من خلال الضغط الأميركي الحازم، المالي والسياسي، على دولة الاحتلال الإسرائيلي.
سمعة السياسة الخارجية لأميركا كانت تشوبُها العيوب إذاً، حين وصل ترامب إلى البيت الأبيض. والفارق بينه وبين أوباما يتمثل في أن ما يفعله يتطابق مع أقواله، لا سيما في ما يتعلق بالفلسطينيين والقدس. يُجاهر ترامب بتماهيه المطلق مع السياسات الإسرائيلية. يعبّر بوضوح عن احتقاره الأمم المتحدة ورفضه كل ما أنتجته من توصيات وقرارات لحل الصراع على أساس القانون الدولي. وهو بذلك يجسّد، من دون مواربة، العنجهية، وكل التصرفات التي أثارت وتثير نقمة الرأي العام الدولي والعربي ضد الدبلوماسية الأميركية. وما التظاهرات الشعبية والتدوينات الساخطة على مواقع التواصل الاجتماعي والانتقادات عبر وسائل الإعلام المختلفة ضد قرار نقل سفارة واشنطن إلى القدس، إلا تعبيراً عن مدى حجم السخط العام على سياسة ترامب المنحازة وغير العادلة. حتى وسائل الإعلام الأميركية المخصصة لمخاطبة الجمهور العربي بلُغتِه امتلأت بتحليلاتٍ مندّدةً بقرار الاعتراف بالقدس "عاصمة" لإسرائيل، ومحذرةً من تداعياته السلبية على صورة أميركا، ومن عواقبه المحتملة على الوضعين، الأمني والسياسي، في الشرق الأوسط.
وستكون نتائج كل أنشطة الدبلوماسية العامّة الأميركية الموجهة إلى الرأي العربي، للتأثير عليه، محدودة، بسبب السياسة المتبعة تجاه القضية الفلسطينية. بناء العلاقات مع الشباب والطلاب والمواهب والفنانين والمستثمرين العرب، عبر برامج متنوعة، والترويج الإعلامي للإنجازات الأميركية في الحقول الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية والطبية والسينمائية وغيرها من المجالات، والحديث عن مستوى العيش ونوعيته في أميركا، وإبراز قيمة الحرية في المجتمع الأميركي، وتسليط الضوء على احترام التعدّدية فيه، كلها أمور مخصصة لتعزيز نفوذ الولايات المتحدة وجاذبيتها. وهي أفعال قادرة على زيادة نسبة محبي أميركا في المجتمع العربي، لولا سياستها الخارجية التي لا يمكن تبريرها، لأنها تدعم احتلالاً يُمعن في إذلال الشعب الفلسطيني وتشريده، ويحرمه من حقه في إقامة دولته المستقلة والقابلة للحياة.
وكان في مقدور أميركا أن تقنع الجمهور العربي بصدقية التزامها بالدفاع عن حقوق الإنسان، لولا أن دعمها إسرائيل دليل على أنها لا تقيم أي اعتبار لحقوق الإنسان، حين يكون الجلاد إسرائيلياً والضحية فلسطينياً. أما استخدامها المساعدات الاقتصادية والإنسانية التي تقدمها للدول الفقيرة والنامية، وسيلة لتلميع صورتها، سيؤدي إلى نتائج عكسية، في ظل تبنّي إدارة ترامب
خطاباً دبلوماسياً يربط بين استمرار هذه المساعدات والتحاق تلك الدول بالسياسة الأميركية. فلم تتردد واشنطن في تهديد الدول التي صوّتت لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرافض قرار ترامب الاعتراف بالقدس "عاصمة" لإسرائيل في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2017. وفي حال أقدمت فعلاً على وقف المساعدات لتلك الدول، بعد إعلانها أيضاً عن عزمها تقليص التزاماتها المالية تجاه الأمم المتحدة، فإن هذا التصرف سيسيء أكثر فأكثر إلى صورة أميركا، كونه يعكس سياسة الكيل بمكيالين. ستزداد بالتالي نقمة الرأي العام الدولي والعربي عليها، لأنها تعاقب من يعارضها، ويرفض سياستها الأحادية، بينما تمتنع عن معاقبة إسرائيل التي لديها تاريخ حافل في انتهاك القانون الدولي وممارسة إرهاب الدولة وارتكاب جرائم الحرب والمجازر بحق الفلسطينيين...
ويفقد خطاب الولايات المتحدة عن مكافحة الإرهاب والحركات الجهادية من صدقيته، حين يقدّم ترامب هديةً مجانيةً لمنظمات إرهابية، مثل القاعدة وداعش، أو لقوى أخرى تستخدم الدين لغايات سياسية، كإيران وحزب الله و"حماس"، بتوفيره حجة لها من أجل التجييش والتجنيد مجدّداً، وهذه المرة تحت شعار القدس. سيقتنع الرأي العام الدولي والعربي بأن الدبلوماسية الأميركية تضمر عكس ما تعلن. وكأنها تريد أن تعود "داعش" إلى الواجهة لتعيق مجدداً الطموح العربي بالتغيير.
لن تتخلص أميركا من العيوب التي تعتري صورتها الدولية، ما لم تقطع مع أفعالها وسياساتها الخاطئة على الساحة الدولية، لا سيما في ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. لن تكسب قلوب الجمهور العربي، ما لم تفرض على إسرائيل انسحابها من الأراضي المحتلة، فضلاً عن معاقبتها على جرائمها منذ عام 1948. لكن الرئيس ترامب غير مهتمّ مطلقاً بتحسين صورة بلاده وسمعتها، بقدر ما هو منشغل بالبحث عن مكاسب وأرباح بأيّ ثمنٍ كان، وهذا تصرّف مشين بحد ذاته.