في أغراض تعديل الدستور المصري

في أغراض تعديل الدستور المصري

09 سبتمبر 2017
+ الخط -
تعبر التشريعات والدساتير عن موازين القوى في المجتمع، وتعكس مضامينها وانحيازاتها ومدى تطبيقها، قدرة القوى الاجتماعية على فرض إرادتها. وحين يحدث تغير في موازين تلك القوى، تصبح مسألة سن تشريعات جديدة أو تعديلها أداةً لتثبيت الأوضاع الجديدة والتوافق مع التغيير بسلطة النص. وهنا يثبت النص صورة القوى وموقعها، واللحظة التي يتصاعد فيها نفوذ كتلة اجتماعية ما. لذا التشريعات والدساتير كما هي أداة لكسب الحقوق وانتزاعها، فإنها عقد اجتماعي، يحدّد العلاقات بين مؤسسات الدولة والشعب، وكذلك أداة لفرض سلطة المؤسسات التنفيذية عبر نصوصٍ مكتوبة لها صفة القوة والإذعان، تستعين بها القوى الاجتماعية والنظام لفرض هيمنته، بجانب أدوات القوة الخشنة، كمؤسسات الردع الأمني. وحين تتبدل الظروف وعلاقات القوة يصبح الدستور قابلا للتعديل بموجب الظروف الجديدة. وهذا المنطق والقياس العام يمكن تطبيقه على تجارب دولية كثيرة شهدت تعديلاتٍ دستورية، أو كتبت دساتير جديدة، فبعد كل ظرف استثنائي، يشهد تصاعد حالة صراع اجتماعي وسياسي ينتج عنه تغير في موازين القوى، ينتج ميلا إلى إقرار دستور جديد، أو تعديل الدستور القائم. وينطبق ذلك على حالات وظروف حدوث الثورات والانقلابات والحروب الأهلية، أو محاولات الانفصال والحكم الذاتي، والتى ينتج عنها تعديلات دستورية أو إقرار دستور جديد، يتناسب مع نتائج الصراع، ويميل إلى صف القوى المنتصرة.
ومن هنا، يمكن القول إن علاقة القوى الاقتصادية والاجتماعية للنظام بالدستور، والتشريعات
عموما، فى حالة جدل ترتبط بعلاقات القوة والنفوذ فى المجتمع، فحين يتغير موقع قوى ما داخل النظام، أو داخل المجتمع، ستحاول تلك القوى المتغلبة أن تشرعن وضعيتها الجديدة بما يتناسب مع مصالحها، وتستخدم في ذلك القوانين والتعديلات الدستورية.
وفى أحيان أخرى، لا تلجأ قوى النظام إلى تشريعات أو تعديلات دستورية جديدة، وتكتفي بسلطة الأمر الواقع، مكتفية بأدوات السيطرة المباشرة، سواء عبر الهيمنة الثقافية أو عبر الهيمنة الأمنية، متجاوزةً نصوص الدستور والقانون القائم، والذي يصطدم مع مصالحها وسياساتها، وتصبح هنا قوة الردع دستورها. ويتضمن دستور مصر (2014) مواد عديدة تقرّ مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة وتحظر التمييز، لكن السلطة، بحكم علاقات القوة، تمارس أشكالا متنوعة من التمييز الاجتماعي والاقتصادي، وتتغاضى عن التمييز الديني، لتسير مصالح مجموعة محدودة هم رجال النظام. ويشتمل الدستور على مواد عن حرية التنظيم والتعبير، بما فيها التظاهر والإضراب والاعتصام، بينما يتم عمليا انتهاك تلك الحقوق، بل يتم تجريمها، باستخدام نصوص قانونية تتعارض مع الدستور، فيحبس أكثر من 30 ألف معتقل، بتهمة التظاهر، ويحول عمالا طالبوا بمحاربة الفساد الذي يخرّب شركاتهم، أو طالبوا بصرف مستحقاتهم إلى المحاكمات العسكرية، وتحجب الصحف والمواقع الإلكترونية غير المسيرة من أجهزة الأمن، بتهم نشر الإرهاب والتطرّف، ويتم الاعتداء على ممتلكات بعض المواطنين في إطار المكايدة السياسية.
يمكن القول إن التشريع والدستور أداة معبرة عن إرادة القوى المتغلبة، وأنها المدونة الرسمية لإعلان تغلبها وهيمنتها. وعلى هذه الأرضية، يمكن تحليل التصريحات الداعية إلى تغيير الدستور المصري، فلولا تغير موازين القوى السياسية، واتساع مساحات النفوذ لمجموعات المصالح الحاكمة، لما كانت ظهرت تلك التصريحات، التي تستهدف منح السلطة وممثليها مزيدا من الصلاحيات والنفوذ من جانب، والتراجع عن بعض الإصلاحات من جانب آخر، خصوصا أن النصوص التي يُراد تغييرها ترتبط بفترة رئاسة الجمهورية (المادة 104) التي حكمت مدة الرئاسة بأربع سنوات، وسلطات منصب رئيس الجمهورية التى يُراد أن تكون مطلقة، كما كانت قبل ثورة يناير. هنا يمكن الإشارة إلى المواد المتعلقة بتعيين الحكومة وإقالتها (المادتان146،147) وكذلك المادة 204 التي تحظر المحاكمات العسكرية للمدنيين إلا في حالة الاعتداء على منشأة عسكرية، بالإضافة إلى مواد أخرى، يتعلق بعضها بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي نص عليها الدستور، كالمادتين 18و21، والتي تلزم الدولة بالإنفاق على الصحة والتعليم بما لا يقل عن 2%، بالإضافة إلى المواد الحاكمة لصحة عضوية مجلس النواب، واستقلالية مجلس الدولة والنائب العام.
ومن قراءة تلك المواد، يمكن استنتاج أهداف مطالبات رجال النظام بتعديل الدستور، والذي سيحقق أهدافا، منها تمديد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي مستقبلا، إما بزيادة فترة الرئاسة إلى أكثر من أربع سنوات أو بزيادة مدد الرئاسة إلى أكثر من فترتين أو الاثنين معا، ما يعنى أن النظام يود أن يحكم إلى ما بعد العام 2022. ويهدف مقترح التعديل إلى إعفاء الدولة من دورها الاجتماعي في تقديم خدمات التعليم والصحة والبحث العلمي، بالإضافة إلى زيادة هيمنة مؤسسة الرئاسة على السلطة وأجهزة الدولة، عبر عودة صلاحياته فيما يخص مجلس الدولة والقضاء العسكري. وهذا كله يؤدي إلى استدامة الحكم، بما يخدم مجموعات مصالح ترى أن الدستور كتب "بحسن نيه"، وإنه ليس قرآنا كريما ويجب تعديله، لأنه كتب في فترة انتقالية شهدت اضطرابات في الإشارة إلى الحراك السياسي.
من جانب آخر، يشير الخطاب السلطوي المطالب بتعديل الدستور إلى هزيمة قوى الثورة
والإصلاح، بعد سنوات من النضال الديمقراطي، قبل الثورة وفي أثنائها، للحد من صلاحيات منصب رئيس الجمهورية وسلطاته، ووقف تغوّل السلطة التنفيذية عموما، وكذلك المطالبة بإقرار الحقوق الديمقراطية والاجتماعية في نصوص دستورية. وهذه الهزيمة، نتائجها أو قل ثمنها، ما شهدته مصر من سلطوية سياسية، وسياسات اقتصادية قاسية طبقها النظام. لذا لم يكن مستغربا إلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات عموما، وتأجيل كل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، سواء كانت انتخابات النقابات أو اتحادات الطلاب والجامعات أو المحليات، وحتى انتخابات العمداء، وهذه انتكاسة أخرى شهدها المجتمع المصري ويعانى من آثارها، فسياسة تأجيل الانتخابات تتنافى مع ما يحتاجه المجتمع من أدواتٍ لتسييره وتطويره وتلبية احتياجاته، وينتج عنها ظواهر شديدة الخطورة، أقلها ما يشهده الواقع المحلي والجامعي والنقابي من انتهاكٍ للحقوق، وانتشارا لظواهر الشللية والفساد وإهدار المال العام والفساد الأخلاقي. لذا مع هزيمة قوى الثورة وتفتتها، ليس مستغربا أن ينادي بعضهم بتأجيل انتخابات الرئاسة، فمصر بلا انتخابات منذ فترة، ولم يعترض أحد، بل بلا مساحة سياسية، لتمارس فيها ديمقراطية أو تنافس حقيقي.
وعلى الرغم من أن الواقع يفيد بأن إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة واستمرار النظام مهمة تبدو سهلةً فى المنظور القريب على الأقل، بحكم هيمنة السلطة التنفيذية، وموت السياسة، إلا أن الحملة المطالبة بتعديل الدستور مستمرة، وهذا يشير إلى رغبةٍ في تثبيت أقدام السلطة بعد العام 2018، وترتكن مطالبات تعديل الدستور إلى رغبة مؤسسات الدولة، ومكونات الحكم من رجال السلطة التشريعية، أعضاء البرلمان وكذلك أغلب رجال الأعمال وإعلامهم الذي يمهد لقبول فكرة تعديل الدستور، وعلى الرغم من الصعوبات التي سيواجهها إجرائيا احتمال تعديل الدستور، بحكم المادة 226، إلا أن هناك شبه رضى من قوى سياسية كثيرة تمثل جناحا مواليا للنظام، لكن التعديل، في حد ذاته على مستوى الصراع السياسي العام، قد يعد حال إجرائه قفزة في الهواء غير مأمونة، لأن الشعب المصري الذي ارتبط جزء من تاريخه النضالى بأهمية الدستور، بوصفه عقدا اجتماعيا، لن يقبل فكرة تعديله بسهولة، وسوف تضيف هذه المسألة نقطة أخرى إلى أسباب الغضب الذي تحدثه الإجراءات الاقتصادية القاسية التي يطبقها النظام.

دلالات

D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".