سورية في كرة القدم والوجدان الشعبي

سورية في كرة القدم والوجدان الشعبي

08 سبتمبر 2017

لاعبو منتخب سورية بعد مباراتهم مع إيران (5/9/2017/Getty)

+ الخط -
لم تستفد النخب السورية التي ادعت الانتماء إلى الشعب، واقتنصت منه وكالةً حصرية بتمثيله، إن كان لجهة المعارضة أم الموالاة، لم تستفد من فشلها الصاخب في الوصول إلى حلّ يتفق عليه السوريون، لإخراج بلادهم، ليس من عنق الزجاجة، بل من فوهة جهنم التي تلتهمهم، فبعد كل هذا الدمار وذلك الخطر المتربص بالسوريين في مستقبلهم، لم تلتفت تلك النخب إلى المشتركات، ولم تعد تتذكر أن السوريين في الأصل شعب واحد ضمن كيان يُدعى دولةً، في وطن لكل سوري الحق فيه. لو أنهم وقفوا وقفة نقد للذات، ومراجعة للتجارب المستمرة منذ بدء الانتفاضة، لكانوا على الأقل التقطوا بعض الالتماعات التي يمكن البناء عليها، فهي لحظة حقيقة متمرّدة على كل أشكال القمع والمحو والتشويه والطمس. وليس أكثر تعبيرًا عن الوجدان الجمعي مثل الالتماعة الأخيرة التي ما زالت حارّة وامضة، بعد المباراة التي خاضها المنتخب السوري مع الإيراني، وانتهت بالتعادل، فقد كانت ردة الفعل الشعبية هي التعبير الحقيقي عن وجدان الشعب السوري، إنها أكبر من كل التحالفات والاستراتيجيات والمعارك والحروب التي جرت على أرض سورية، فمثلما هناك "دولة عميقة" يُحكى عنها، وهي حقيقة واقعة في معظم دول العالم وأنظمته، هناك "وجدان شعبي عميق" من المفيد رصده والالتفات إليه.
دفعت الحرب الجبارة السوريين إلى خيارات صعبة، ربما لم تكن في حالات كثيرة ناجمةً عن 
إرادة حرة أو عاطفةٍ لا تعاني من الاضطراب. وتصريح عمر السومة قبل أشهر إلى صحيفة الرياضية السعودية، قبل أن يعود إلى اللعب في المنتخب السوري، دليل دامغ عندما قال: "أنا حزين لعدم مشاركتي مع منتخب بلدي، لأنه شرف كبير لأي لاعب أن يرتدي شعار وطنه”. وقد عبّر عمر سومة ابن دير الزور التي أعلن الجيش السوري أنه حرّرها من تنظيم داعش، عمّا يدور في صدره من مشاعر قهر وخيبة يعانيها كل سوري منزوع الوطن، أو على وشك انتزاعه منه. وعلى الرغم من قيمة انتزاع دير الزور من التنظيم المارق، إلّا أن أرواح سوريين كثيرين ذهبت إلى أقاصي البكاء، تحت ضغط سوريالية الحالة السورية، فهل كان يجب أن يكون الثمن كل هذه الأرواح والدماء؟ ربما دفعت هذه التراجيديا السوريين إلى توسل المباراة علّ أرواحهم تحتفي بفوز أخلاقي.
لماذا انقسمت النخب بشكل صارخ حول المنتخب السوري ومشاركاته في المباريات؟ ما زالت سورية دولة معترفا بها، ولن يكون تمثيلها في المحافل الدولية خصوصًا في هذه المجالات إلاّ عن طريق حكومتها الحالية، فهل نجحت المعارضة في تشكيل كيان سياسي متكامل بديل يستطيع العالم أن يتعامل معه وفق مشروعية العلاقات بين الدول والشعوب ومبادئها ونواظمها؟ فكيف بفريق رياضي؟ أم المطلوب أن تبقى سورية خارج التاريخ، إلى أن تنتهي الحرب، وتقرّ الدول الضالعة في مأساتنا أمرًا كان مفعولا؟
قال فراس الخطيب في تصريح لقناة روسيا اليوم: تمثيل المنتخب والوطن شرف لكل لاعب. فتعرض للتشهير والتخوين بأشرس الطرق، فهل صدّق المعارضون كما الموالون أن سورية هي "سورية الأسد"؟ أم أنها للسوري فقط، لكل سوري؟ وإذ يقول فراس الخطيب في التصريح نفسه: أي شخص أو أي لاعب يمثل منتخب سورية يجب أن يكون على قدر المسؤولية ويفرح الشعب السوري، بكل أطيافه رجالاً ونساء وشيوخًا وأطفالاً. ألا يذكرنا هذا التصريح بما قاله رئيس "ريال مدريد" عندما كانت إسبانيا تحت حكم أعتى الديكتاتوريات، ديكتاتورية الجنرال فرانكو: "إننا نقدم خدمة إلى الأمة، فما نريده هو إبقاء الناس سعداء".. فهل الشعب السوري المفجوع المنكوب الموجوع ليس جديرًا بومضة فرحٍ يشعر خلالها بأن له الحق في الوجود؟
في سنة 1954، كان أول مونديال تشارك فيه ألمانيا بعد الحرب التي دمرتها، وقد تحولت صرخة الهدف التي أطلقها المعلق الألماني حينها على المباراة إلى رمز للانبعاث الوطني، كما ذكر إدواردو غاليانو في كتابه عن كرة القدم، فقد شعر حينها الشعب الألماني من جديد بأن له الحق في الوجود.
كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام، وليس كرة القدم والنظام، فالنظام، أي نظام، زائل، بينما الوطن يجب أن يبقى، أليس جديرا بنا، انطلاقًا من هذه البديهية، أن نتلقف كل فكرة يمكن أن تلأم جراحات وطننا، بدلاً من أن نكرّس عمق هذه الجراحات؟ كانت حرب تفكك يوغسلافيا التي أربكت العالم كله قد جرت في ملاعب كرة القدم قبل وقوعها في ميادين المعارك، فالأحقاد القديمة بين الصرب والكروات كانت تبرز إلى السطح، كلما تواجه ناديا بلغراد وزغرب. وعندئذٍ، كان المشجعون يكشفون عواطفهم الدفينة، ويظهرون رايات وأغنيات من الماضي، وكأنها فؤوس حربية. صحيح أنها تجربة وقعت هناك، في مكان بعيد عن سورية، لكنها تجربة شعب ونتائجها ماثلة أمامنا، فلماذا لا نعتبر من تجارب الشعوب؟ ولماذا لا تكون كرة القدم رسول سلام بين السوريين وإليهم؟ في حرب التشاكو بين بوليفيا والباراغواي عام 1934، شكل الصليب الأحمر في باراغواي فريق كرة قدم، لعب في عدة مدن في الأرجنتين والأورغواي، وجمع ما يكفي من المال لمعالجة جرحى الجانبين في ميدان المعركة.
تستطيع كرة القدم لو أردنا لها أن تفعل. في سؤالٍ يطرحه إدواردو غاليانو أيضًا عن وجه 
الشبه بين كرة القدم والإله يقول: إنه الورع الذي يبديه مؤمنون كثيرون والريبة التي يبديها مثقفون كثيرون. أما الورع فهو شعور نقي صادق لدى المؤمن، والشعب السوري مؤمن بوطنه وبلده، وهو يرى، بنقاء وسريرة صافية، أكثر من نخبه، هذا ما كشفته السنوات السبع الزاخرة بماء النار على وجه أرضه. وكرة القدم هي معركته النبيلة التي خاضها بعيدًا عن السياسة، متحررًا من الولاءات والأجندات. فرحته بخروجه غير مهزوم أمام إيران هي فوز أخلاقي وانتصار على السياسة التي تمارسها الأنظمة، منفصلة عن شعوبها بعيدًا عن المنظومات والقيم. كان يوجد نبض هامس لو أصخنا السمع إليه، نبض الشعب على حقيقته، الشعب السوري المنتمي إلى سوريته فقط، حتى لو كانت هناك ثلة من الغوغائيين الذين يستثمرون في الفرح والحزن، وفي السلم والحرب، فهم لم يوفروا الرصاص الذي هو الدليل على انتمائهم إلى المرحلة.
الغالبية من الشعب السوري كانت مبتهجًة بنتيجة المباراة، واللبيب من يلتقط النبض، نبض الحقيقة التي انبثقت كمارد من قمقمه. في هذا الفعل عمل صالح بمعايير الحق والأخلاق الإنسانية، يجدر بالـ "المثقفين" ألاّ يشككوا به، ويبتعدوا عن زرع الريبة به، في نفوس الناس المبتهجين. من هذه الحقائق والالتماعات الصغيرة، يمكن إعادة الحياة إلى هذا الشعب الجدير بالوجود.