عودة نظرية الرجل المجنون

عودة نظرية الرجل المجنون

06 سبتمبر 2017
+ الخط -
تذكّرنا الحرب الإعلامية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وغريمه الكوري الشمالي كيم جونغ أون بـ "نظرية الرجل المجنون"، لكن في صيغتها الجديدة. ولمن لا يعرفها، ارتبطت هذه النظرية باسم وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، عندما كان يقود وفد بلاده في المفاوضات السرية في باريس بين الأميركيين والفيتناميين الشماليين في سبعينات القرن الماضي.
فعندما كانت المفاوضات تدخل إلى نفق مسدود، كان كيسنجر، الذي عرف بدهائه السياسي، يطلب تعليق المفاوضات، ويختلي برئيس الوفد الفيتنامي الشمالي، ويبدأ بالتحسّر والتأسف أمامه لأن رئيسه، أي الرئيس ريتشارد نيكسون، آنذاك، "رجل مجنون"، ولو بلغه أمر فشل المفاوضات لأمر مجدّداً بقصف المدن والقرى الفيتنامية.
وعلى الرغم من "دهاء" كيسنجر الذي صار يضرب به المثل في براعة التفاوض، لم تكن حيلته تنطلي بسرعة على رئيس الوفد الفيتنامي الشمالي الذي كان يعرف أن الأمر يتعلق فقط بتوزيع للأدوار بين الرئيس الأميركي ووزير خارجيته، لكن "نظرية الرجل المجنون" ستدخل الأدبيات السياسية وسيلة يتم اللجوء إليها للضغط على الخصوم، وقد استعملت مراراً في عالمنا العربي لتخريب العراق وتمزيق ليبيا وإغراق سورية في حرب أهلية، عندما تم تصوير دكتاتوريي هذه البلدان "مجانين"، وقادرين على كل شيء، بما في ذلك إبادة شعوبهم للحفاظ على عروشهم، ونجحت الشعوب في ابتلاع الطعم كل مرة.
لا نحتاج، اليوم، إلى اللجوء إلى استعارة هذه النظرية، لإسقاطها على الصراع الأميركي
الكوري الشمالي، لأن لا أحد يحتاج إلى أن يُعلمنا أن تصرفات كل من الرئيسين الأميركي والكوري الشمالي تبدو "مجنونة" فعلاً، وأصحاب هذه النظرية في صيغتها القديمة ينتظرون فقط من سيبدأ بالضغط على الزر: ترامب أم كيم؟
لكن، لو تابعنا تصريحات الرجلين وتهديداتهما وتوعداتهما لوجدنا أنها مجرّد استفزازات أكثر مما هي تهديدات حقيقية، لأن كلاً منهما يحاول أن يوهمنا بأنه "مجنون" وقادر على فعل أي شيء، والحقيقية أن كلاً منهما إنما يستعمل "نظرية الرجل المجنون" للوصول إلى غايته، ولا يُستبعد أن كلاً منهما يدرك بأن خصمه يتقمص الدور نفسه، وإذا كان الأمر كذلك فمن يكون العاقل المفروض عليه أن يسمع ويفهم كلام هذين المجنونين؟ فالأكيد أن الحرب التي يتوعد بها كلا "المجنونين" غريمه لن تقع، لأنهما يدركان، والإدراك يحتاج إلى تفعيل العقل، بأن الحرب إذا وقعت ستكون مدمرة ليس فقط على الدولتين، وإنما على العالم والكون.
بالنسبة للرئيس الأميركي، يحاول أن يوهمنا بأنه "مجنون" في كثيرٍ من تصرفاته، لكن حتى الآن علمتنا بعض سياساته وقراراته أنه لا يجب دائماً أخذ تصريحاته "النارية" وتغريداته "المنفلتة" محمل الجد، بما أن بعضها يدخل في سياق "نظرية الرجل المجنون" للترهيب والتخويف والضغط، ومثال سياسته مع روسيا واضح جداً عندما استعمل ورقة التغزّل في روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين خلال حملته الانتخابية لضمان "تأييدها" له، المشكوك حتى الآن في الطريقة التي تم بها هذا التأييد، قبل أن ينقلب عليها ويعاديها أكثر مما فعله أي رئيس أميركي قبله، حتى في أيام الحرب الباردة زمن الاتحاد السوفييتي.
اليوم، يمكن قراءة تهديدات ترامب "المجنونة" تجاه كوريا الشمالية بأنها رسائل للضغط على الصين، الجارة والوصية الكبرى على نظام كوريا الشمالية، فبالنسبة للعقل الإستراتيجي
الأميركي، سيأتي الخطر الكبير على أميركا واقتصادها وزعامتها للعالم من الصين، وليس من دولةٍ مازال شعبها يعيش على مساعدات الأمم المتحدة. ولا غرابة في أن تتضمن العقوبات الأميركية التي تتوعد بها واشنطن نظام بيونغ يانغ قطع العلاقات مع كل الدول التي تتعامل اقتصادياً معها، في إشارة واضحة إلى الصين، الشريك الاقتصادي الأول لكوريا الشمالية، والمنافس الأول لاقتصاد الولايات المتحدة. لذلك نجد أن الصين استوعبت الرسالة بسرعة، وسارعت إلى التنديد باستفزازات كوريا الشمالية، ودعتها إلى الكف عن ارتكاب مزيد من الأخطاء، في لغةٍ أقرب إلى الأمر، لأن بكين تعرف أنها قادرة على الضغط على الزعيم الكوري الشمالي، لوقف "جنونه" الذي تحتاج هي الأخرى إلى استعماله، أحياناً، للضغط على منافسيها وخصومها لخدمة مصالحها.
وبالنسبة لرئيس كوريا الشمالية، الشاب كيم الأرعن، فيستعمل تهديداته لأكثر من غرض. أولاً، للحفاظ على نظامه الدكتاتوري الوراثي، ولحماية نفسه من كل تدخل أجنبي، ولإمساك قبضته على شعبه المقهور، ومن أجل إعادة التفاوض لإسقاط العقوبات التي باتت تخنق اقتصاد بلاده، ولجر الولايات المتحدة الأميركية إلى إبرام اتفاق جديد معه، كما كان الأمر سارياً به العمل في عهد بيل كلينتون، وقبل مجيء الرئيس جورج بوش الأب الذي خرق ذلك الاتفاق، ودفع نظام بيونغ يانغ منذ ذلك الحين، أي منذ بداية تسعينات القرن الماضي، إلى ركوب موجة الجنون التي وضعت العالم اليوم على فوّهة بركان حرب نووية مدمرة.
يقول مثل مغربي "هبيل وحاضي حوايجو"، أي أن الأحمق يكون منتبهاً إلى مصالحه، وكذلك الأمر اليوم بالنسبة لترامب وكيم، كلاهما يبدو "مجنوناً" في تصريحاته وتوعداته وتهديداته، لكن كليهما أيضاً يراعيان مصالحهما. والضحية "الأهبل" في مثل هذه الحالة هو من سيصدّق فعلاً أنهما مجنونان.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).