بلاد ما بين النحرين

بلاد ما بين النحرين

06 سبتمبر 2017
+ الخط -
التقيته هذه السنة في لندن على جادة نايت بريدج. كان مثقلاً بهموم كثيرة، وهو العراقي القادم من بلاد الرافدين.. بلاد ما عادت قادرةً على تحمل غنى مكوناتها العرقية والدينية والقومية، فراحت تتخفّف منها، ساعة بالقتل، وساعة بالتهجير، والآن بالانفصال. بلاد لم تعد قادرةً على مواصلة مسار حضاري عريق بناه الأولون، ولم يصل منه شيء إلى الجيل الجديد.
بادرته بالسؤال عن استفتاء تقرير المصير الذي أعلنه الأكراد في 25 سبتمبر/ أيلول الجاري، وهل هو موعد نهائي أم مجرد ورقة يضغط بها الأكراد على الحكومة المركزية في بغداد لتحصيل فوائد جديدة، فقال: أظنه موعداً نهائياً هذه المرّة. يريد الأكراد أن يقبضوا ثمن الدماء التي سالت منهم في الحرب على "داعش"، فحسب رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، خسرت قوات البشمركة أكثر من 1700 مقاتل في حرب "داعش" وأكثر من عشرة آلاف جريح، وفي كل الأحوال، انتقل الأكراد من الحكم الذاتي إلى الحكم الفيدرالي، والآن هم على أبواب إعلان الاستقلال. للكرد اليوم جيش وأرض وشعب وحكومة وبرلمان، وفوق هذا حلم سعوا إليه منذ زمن، ثم إن العراق اليوم لم يعد يغري أحداً بالبقاء فيه، فرداً أو جماعة أو قومية. هو غارق في الفساد والفوضى والعنف والطائفية.
رجعت لأسأل صديقي العراقي: ألن يفتح استقلال الأكراد الباب مشرعاً لإعادة النظر في خرائط المنطقة كلها؟ رد في شبه يأس من أي بادرة أمل: خريطة المنطقة تعج بالفوضى. كل الغرباء يضعون بصماتهم عليها في غياب أهل الدار. إيران اقتطعت لنفسها أجزاء مهمة في العراق وسورية واليمن ولبنان، وغداً ستجرّب في مناطق أخرى. تركيا مهتمة بما يجري في جوارها، وتقول كلمتها بالسلاح في سورية والعراق، وبالدبلوماسية في جل الدول العربية. روسيا تحكم في دمشق، وتقايض بمستقبل سورية في بورصة واشنطن وبروكسل. أما إسرائيل فهي المستفيد الأول من كل ما يجري، فيكفي أن تعرف أنها أول من أيد استفتاء الأكراد لتقرير المصير. صار العالم العربي ساحة مستباحة بلا حارس ولا باب، ولا حتى أعراف للدخول والخروج.
من الخاسر الأول في بلاد الرافدين؟ سألت صديقي، فرد بسرعة: سنة العراق الذين هربوا من نار مليشيات نوري المالكي الطائفية إلى جحيم أبو بكر البغدادي المذهبية، والنتيجة أن مدنهم دمرت، ومن لم يقتل من أهلهم هاجر في أرض الله التي ضاقت بهم. صار العراقيون هم يهود التاريخ المحكوم عليهم بالشتات. سألته: ما الفرق بين الحشد الشعبي وتنظيم داعش الذي اندحر في الأشهر الأخيرة؟ ضحك من السؤال، وقال: لا فرق سوى أن للحشد الشعبي غطاءً سياسياً، ويقوم بأعمال وحشية بعيداً عن الكاميرات، و"داعش" لا يملك غطاء سياسياً وينقل بربريته على الهواء مباشرة، غير هذا، فإن كليهما ينطلق من عقيدة قتالية إرهابية، تستعيد حروب القرن الأول للإسلام، من دون وعي ولا ثقافة ولا فهم للزمن المعاصر، والنتيجة ما تراه. أرض الإسلام اليوم أصبحت تشبه مجسّماً في متحفٍ يحكي حروب القرون الوسطى الدينية التي لم تعشها أجيال اليوم.
قبل أن نقفل ملف العراق وأهواله ودمائه، قلت لصديقي: ماذا لو كانت ولاية فلوريدا الأميركية سنة 2000 قد أعطت بضعة أصوات لآل غور، هل كنا سنصل إلى ما نحن فيه اليوم؟ رد باستغراب: ماذا تقصد؟. قلت: لنفترض أن الديمقراطيين في الولايات المتحدة كانوا قد فازوا في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2000، وذهبت الرئاسة إلى آل غور عوض جورج بوش الصغير الذي ظل فوزه معلقاً أياماً على إعادة فرز... ربما ما كان لآل غور أن يوقف هجمات 11 سبتمبر 2001 التي تبنتها القاعدة، لكن، بالتأكيد، ما كانت الإدارة الأميركية ستتصرف في ظل ديمقراطي عاقل مثلما تصرفت إبّان عهد جمهوري متعصب، وما كانت الحرب على الإرهاب ستكون صليبية، ولا كانت نقطة ارتكازها هي العراق وإطاحة نظامه. كان آل غور سيتعقب تنظيم القاعدة، لكنه لن يقول "من ليس معنا فهو ضدنا".
يصوّت الأميركيون لرئيسٍ يحكم العالم، وليس بلدهم فقط، وعندما يرتكب حماقات يدفع الآخرون فواتيرها، كما يحصل اليوم مع تاجر العقارات دونالد ترامب.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.