محتالون ومحامون وقضاة

محتالون ومحامون وقضاة

05 سبتمبر 2017
+ الخط -
كان يجب أن أتّجه إلى مكتب محاميّ الذي تحوّل شيئا فشيئا إلى صديق، بعد أن ثبت لديه أني من "القاصرين" غير القادرين على الاهتمام بأمورهم في مواجهة المتمرّسين على النفاذ بما يرتكبون من ضروب، وبعد أن تأكّد لي أنه ربما المحامي "الآدمي" الأخير على هذا الكوكب. فالأستاذ ف. أبو خالد يتفادى، في كل مرةٍ أطرح عليه السؤال، الحديث في أمور المال، أعني في كلفة أتعابه، شاعرا بحرجٍ لا يليق ألبتة بزملائه الذين يحسبون عادةً وقتهم بالدقائق، وأرباحَهم في ارتباك عيشك وقلّة حيلتك، لا في صعوبة قضيتك، فيتوقفون عن استكمال الاستشارة ما أن يتضح لهم أنك لا تملك ما يكفي من المال، هذا إن لم يأتوك بحلولٍ "سحرية"، تقتضي دفع رشاوى هنا وهناك، ليتضّح من ثم أنها وعودٌ تتبخّر في الهواء، ولن تحصّل لقاءها سوى الهباء. هذا ما فعله بي مثلا المحامي (ج. فرح)، على عكس الأستاذ ف. الذي عمل معي نحو عام، وهو يسعى إلى حل قضيةٍ مستعصية قاربناها من جميع الجهات، من دون أن يجد لها حلا، وذلك من دون أن يتقاضى أية أتعاب. لذا، توجّهتُ إليه مصمّمةً على دفع "مقدّم" سوف أستكمله لاحقا.
قالت السكرتيرة "تفضّلي، لديه زائر ولن يطيل". وبالفعل، خرج الزائر بعد نحو عشر دقائق في بذلةٍ من نوع راقٍ ثمين، وشعر فاحم أملس وحقيبة جلدية فاخرة، ثم اتجه بخطىً واثقة نحو الباب، وهو يرطن بإنكليزية مهذّبة لا تخلو من لكنةٍ هندية، فيما كان الأستاذ ف. يجيبه بكلّ تحبّب، مرافقا إياه حتى المصعد. "تصوّري أن الرجل جاء إلى لبنان في زيارة عملٍ لا تعدو ثلاثة أيام، لكنه أضاع جواز سفره، وإذا به عالقٌ هنا، معنا، عندما يفكّ القضاة اعتكافهم بشكل نهائي... أتتخيّلين بلدا من دون نيابة عامة، من دون قضاة؟ ما يذهلني فعلا هو غياب أي رد فعل لدى الناس، هل تحرّك أحد؟ هل سارت أيّ مظاهرة، هل جرت أي مطالبة؟ أبدا. لا شيء".
منذ 20 يوليو/ تموز، وهو التاريخ الذي أعلن فيه قضاة لبنان، وعددهم نحو خمسمائة قاضٍ، اعتكافَهم، وحتى تاريخ اليوم، بعد أن أعلنوا تعليق اعتكافهم تدبيرا للأمور المستعجلة، وأنا عالقة لم أتمكّن من الاستحصال على رخصة سواقة "بدلا عن ضائع"، فدفتري الذي ضاع، بحسب الاستمارة التي ملأها عني "موظف" لا يعمل في قصر العدل، بل يرابط خارجا في ما يشبه حانوتا صغيرا يحوي آلة طابعة وطوابع مالية، لن يُستبدل بآخر عمّا قريب، لأنه يحتاج توقيع قاضٍ ونيابة عامة، قبل أن ينزل إلى المخفر حسبما قيل لي.
قبل أشهر، كنت قد جئتُ لتقديم شكوى انتحال شخصية واحتيال، ضدّ المدعوّ د. جالاكيان، الملقّب بأبو حسن الأرمني، البالغ 71 عاما، والذي نسب لنفسه صداقةً متينة وقديمةً مع وزير الداخلية الحالي، السيد نهاد المشنوق، متحدّثا باسمه ومدّعيا القدرة على مساعدتي في إنهاء معاملةٍ صعبةٍ ومهمةٍ جدا تخصّ طفلتي. طبعا، ونظرا لسذاجتي دفعت مبلغا من المال، وبقيتُ أدفع، إلى أن اختفى الأخ، واضطررت لتقديم شكوى ضده، جعلتني أشتبك مع "موظفٍ" آخر، كوني لم أفهم حينها لمَ كان عليّ التوجّه إلى مكتب خارجيّ، ودفع أكثر من 20 دولارا لقاء تقديم شكوى، فكان أن أصررت على دخول قصر العدل لملء استمارة الشكوى بنفسي، إلى أن فهمت أن لا وجود لاستمارةٍ كهذه، وأن الترتيب جار هكذا، في الخارج أولا، ثم في الداخل. من قرّر هذا ولماذا وكيف؟ الصراحة لا أعرف ولن أعرف، مهما استفهمت وحاولت، والحقّ أني قد حاولت إنما من دون جدوى.
والحال أنه ليس ضرب الاحتيال الأوّل الذي أتعرّض له منذ عودتي إلى لبنان، ولن يكون حتما الأخير، وثمّة مازوشية مؤكّدة في مواصلتي منح الثقة لمن لا يستحقونها، مراهنةً على أني، هذي المرة، حتماً سأُصيب. وقد يكون مبالغا القول إني أجد "رضا" ما في ما يحصل لي، وإن لم يكن فعلاً رضا، فهو على الأقلّ تحدٍّ مسلٍّ، كأن أرى نفسي أشاهد فيلماً أتوقّع أحداثَه، فيحدث أن تحدث الأحداث فعلا، مظهرةً صوابي وإصابتي. أمّا ما هو منسوبُ الصواب ومنسوبُ الخطأ في أن تراهنَ دوماً على فوز الآخرين على حساب خسارتك، فذاك شأنٌ آخر.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"