من الأمير مترنيش إلى الأمير الصاعد

من الأمير مترنيش إلى الأمير الصاعد

30 سبتمبر 2017

كليمنس فون مترنيش ومحمد بن سلمان

+ الخط -
شهدت أوروبا، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثورة مضادة، قادها وزير الخارجية النمساوي، الأمير كليمنس فون مترنيش. وقد شكلت النمسا الثقل الأهم لهذه الموجة، والذي بدأ يتضح، بعد تنظيمها مع الدول الأوروبية ما يعرف بمؤتمر فيينا، وقد عقد في أواخر العام 1814. فرضت النمسا، مع هذه الدول، نظامًا رجعيًا محافظًا، ساهم في القضاء على الحريات والحقوق التي اكتسبت في أعقاب الثورة الفرنسية. وقد لعب مترنيش، دورًا مركزيًا في الثورة المضادة، كونه العقل المدبر لتحالفاتها والوجه الأبرز في السياسة الخارجية الأوروبية 30 عامًا، وكما ساهم في تمرير اتفاقياتٍ حافظت على توازنات القوى في تلك الفترة، بما يخدم الطبقات الحاكمة. ساعدت هذه الحالة على قمع ثوراتٍ عديدة في بعض الدول، كألمانيا وهولندا وإيطاليا والمجر وفرنسا والنمسا نفسها. حتى انفجار ثورات "ربيع الشعوب" الأوروبي في عام 1848 الذي أجبر ملكياتٍ عديدة على تقديم تنازلات مهمة على الصعيد الديمقراطي.
الآن، وبعد قرنين، تقوم بعض دول المنطقة متحالفة مع قوى دولية بهذا الدور، بحيث تؤدي العربية السعودية، وبتحالفٍ مع دول إقليمية، دورًا يشبه الدور النمساوي، ويكاد يتخطاه في التأثير السيئ، كونها رأس حربة الثورة المضادة للربيع العربي. وبلا منازع يمثل حكم آل سعود قلعة الرجعية في العالم العربي، وكما يوظف ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، جل إمكاناته لقيادة الثورة المضادة إلى جانب والده الملك سلمان بن عبد العزيز. وبحسب مراقبين، يبدو أن عملية انتقال الحكم من سلمان الأب إلى سلمان الابن أصبحت على مرمى البصر، فحسم الخلافات داخل عائلة آل سعود بشأن انتقال السلطة بات أمرًا واقعًا (إلا في ظهور استثناء مهم). ولكن، بقراءة متأنية لطبيعة التحديات التي تفرضها المرحلة التي يمر بها العالم، والمنطقة خصوصا، نجد أنها ستشكل صعوبةً لتأسيس استقرار المملكة وحكم بن سلمان.
تعاني المملكة، ومنذ فترة ليست وجيزة، من مجموعة تحديات، قد توثر على مسيرتها السلطوية
في المنطقة العربية، ونرى أنها تكمن في أربعة محاور. أولها؛ رؤية 2030؛ وقد قدمها محمد بن سلمان، باعتبارها مشروعه الاقتصادي، وكأنما يمتلك الحل السحري لتغيير طبيعة الاقتصاد السعودي الذي يعتمد على النفط (اقتصاد نفطي). لم تكن هذه المرة الأولى لمحاولة السعودية تنويع اقتصادها، فمبادرات عديدة أطلقت على مدار العقود الماضية. وعلى الرغم من تحقيق قدر من التنويع في بنية الاقتصاد، لا يزال قطاع النفط جوهريا، إلا أن انخفاض أسعار النفط، ووصول عجز الموازنة إلى أرقام غير مسبوقة (قرابة 700 مليار ريال سعودي)، خلال عامي 2015 و2016، يطرح استفسارات عديدة بشأن نجاح هذه الخطة. وكما تتضمن الرؤية خصخصةً لبعض الأصول السعودية، وذلك لإنشاء صندوق استثماري ضخم. ومن أهم تلك الأصول أسهم في شركة أرامكو، البقرة الحلوب لآل سعود، الأمر الذي يفتح النقاش حول كيف تصرف الأرباح المهولة لهذه الشركة. وقد تطرّق موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، في تقرير مطول، للإشارة إلى مجموعة من الأسباب لفشل هذه الرؤية. وللمفارقة أول خط للتراجع عن تلك الرؤية كان من الملك سلمان بإعادة دفع المكافآت والبدلات بأثر رجعي لموظفي الدولة، بعد توقيفها، نظرًا إلى عجز الموازنة إبان ترفيع محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، فيما يعتبر رشوة سياسية واضحة لتمرير مساعي الملك لتوريث ابنه. ما يتم التركيز عليه في هذه النقطة هو خطورة تنفيذ هذه الرؤية على مستقبل المملكة، فضمنيًا العقد الاجتماعي السائد منذ عقود طويلة هو إغداق اقتصادي على قطاعاتٍ واسعة من الشعب السعودي في مقابل انفراد آل سعود بالسلطة، وعدم المطالبة بالمشاركة في الحكم. وفي تطور جديد، يعلن عن انتهاء هذا العقد الاجتماعي الذي حافظ علي تماسك منظومة الحكم منذ تأسيسها، بإجراءاتٍ تدعو السعوديين إلى التقشف، واتجاه معلن إلى فرض الضرائب، وتقليل الأجور في مغامرة غير محسوبة.
ثانيًا، حرب اليمن. بالتزامن مع توجيه منظمات حقوقية، بعد فترة طويلة من السكوت، اتهامات للسعودية وحلفائها بارتكاب جرائم حرب، لا تظهر في الأفق بوادر اقتراب نهاية كارثة اليمن التي يدفع الشعب اليمني دماء أبنائه ثمنا لها، بجانب الخراب والدمار الذي طاول أغلب المحافظات، وانتشار وباء الكوليرا في عدد من المناطق، حسب بيان نشرته منظمة الصحة العالمية. هذه الحرب التي قرّر محمد بن سلمان خوضها، واهمًا نفسه بالمقدرة على تحقيق نصرٍ سريع، وصفتها صحيفة واشنطن بوست بـأنها "فيتنام السعودية"، حيث وصلت خسائر الجنود السعوديين إلى مئات القتلى، وأيضا لارتفاع كلفتها وعبئها على الدولة، حتى باتت موازنة القطاع الأمني والعسكري أعلى بندٍ في ميزانية المملكة، بمبلغ يتجاوز 200 مليار ريال. هذا بالإضافة إلى الخلافات التي أصبحت ظاهرةً على السطح مع أهم حلفائها الإمارات، ومساعي الأخيرة للسيطرة منفردةً على موانئ يمنية، وأهمها ميناء عدن الاستراتيجي. وفي السياق نفسه، يرى مراقبون عديدون أن معضلة الحرب في اليمن أحد الدوافع المهمة التي باتت تشكك في قدرات محمد بن سلمان لخلافة والده، والجلوس على عرش المملكة.
ثالثًا، معضلة الجهاديين؛ ثمّة إشكالية قد تسبب أزمة أمنية، ربما تظهر بوادرها على المدى
المتوسط، حيث إن إحكام الخناق على تنظيم الدولة الإسلامية على الجبهتين، السورية والعراقية، سيفتح معضلة جديدة، تتمثل بعودة سعوديين عديدين منتمين لهذه التنظيمات إلى ديارهم، مع عودة المحكومين بالإعدام والمفرج عنهم من السلطات السعودية عام 2012 للقتال في سورية. وفي السياق نفسه،، نستذكر أن تفكك تنظيم القاعدة في أفغانستان إبّان الحرب التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية، أسهم في عودة المنتمين للتنظيم إلى دولهم. وهذا يعود بنا إلى السؤال؛ هل ستتسبب عودة هؤلاء بإحداث أزماتٍ أمنيةٍ جديدة على المملكة؟
شتّان بين الأميرين، النمساوي والسعودي، فالأول مستبد وسلطوي يمتلك قدرات وخبرة سياسية أسست عقودا من استقرار الديكتاتورية في أوروبا، والثاني مغامر وضحل، يلهث إلى تحقيق أي تقدم يصنع به نصرا حتى لو كان زائفا.
وبناءً على ما ذكر، ربما توحي رؤية الصورة من الخارج بانتصار الأمير الصاعد. ولكن على عكس ما يبدو على السطح، يرى المتمعن في التناقضات التي تفرضها طبيعة المرحلة الصعبة التي تمر بها المنطقة أن شروخا في جدار حكم آل سعود قد بدأت وبلا رجعة، حتى وإن كانت تسير بخطىً بطيئة، فلم يعد بيت آل سعود كما كان، ولم يعد سرًا السماع عن تعدّد الرافضين لتنصيب الابن المدلل. وفي سياق متصل، بات الشعب السعودي اليوم يعي عن قضايا العالم وحقوق الإنسان والقيم الكونية أكثر من أي وقت مضي، فالأجيال الشابة التي أصبحت متخلصةً، إلى حد كبير، من عادات المجتمع القبلي وتقاليده، باتت تواقةً أكثر إلى العدل والحرية، فلن يقنعهم أميرهم الشاب في دعوتهم إلى التقشف، في الوقت الذي يشترى هو يختًا بمئات ملايين الدولارات. وكما لن ترضى النساء بشرطة دينية تمنعهن من أبسط حقوقهم، في ظل التغافل عن التعرّض لأماكن الأمراء ومسؤولي الدولة. ربما ستكون الأيام المقبلة حبلى بإجابات عن أسئلةٍ كانت من الصعوبة بمكان أن تطرح حول العقد الاجتماعي والشرعية والحكم الديمقراطي في السعودية.