الصوت والخيال

الصوت والخيال

30 سبتمبر 2017

(Getty)

+ الخط -
المشهد هو التالي: القرية الصغيرة بكل من فيها، رجالاً وشباباً ونساء وأطفالاً، يتحلقون في ساحة القرية حول راديو متوسط الحجم يعمل على البطارية. أما الحدث فكان المباراة النهائية في كأس العالم في دورة قديمة جداً. وعلى ما أذكر، كانت إذاعة لندن هي التي تنقل المباراة عبر أثيرها. كان المتحلقون حول جهاز الراديو يتمايلون ويقفزون ويهدأون ويصرخون ويشتمون اللاعبين، ويطلقون هتافات التشجيع حسب وتيرة صوت المعلق الرياضي على المباراة. لم يكن هذا الاجتماع الكبير للقرية يحدث فقط في أثناء نقل مجريات مبارايات كرة القدم، وإنما أيضاً خلال بث حلقات المسلسلات الإذاعية الشهيرة، كانت إلإذاعات تبث مسلسلات بدوية، "النوق البيض" و"فارس ونجود"، ومسلسلات أخرى غيب الزمن أسماءها.
أتذكّر الآن التتر الإذاعي لمسلسل النوق البيض: طرقات خفيفة ومتواترة تشبه صوت حوافر النوق على الرمال في الصحراء. اللعب على الأصوات في البث الإذاعي كان ضرورياً لجذب أكبر عدد من المستعمين، إذ لم يكن خافياً على المشتغلين في العمل الإذاعي تأثيرالصوت على مخيلة المستمع، فالاهتزازات والذبذبات الصوتية الصادرة من مصدرٍ ما سرعان ما تصل إلى دماغ المتلقي لها، ويبدأ الدماغ باستقبالها وتفكيكها وتحليلها بسرعة مذهلة، ويترجم الدماغ أيضاً هذه الذبذبات إلى إشاراتٍ تساعد على التمكن من فهمها. وبطبيعة الحال، سيكون استقبال المتلقين للصوت في شكله الفيزيائي واحداً، إذ لا يمكن أن يتلقى أحدهم صوتاً حاداً، بينما يتلقى آخر الصوت نفسه على أنه صوت عريض. لكن، يمكن للصوت نفسه أن يستدعي خيالاتٍ مختلفة بين متلق وآخر. مثلاً في الصوت الذي يمثل حركة حوافر النوق، وهي تمشي على الرمل، فالمتلقي الذي يعرف مسبقاً أن حركة النوق ليست سريعةً كحركة الحصان، سيكون الصوت أقل إبهاراً عليه من متلقٍ آخر لا يعرف أي شيء عن النوق وحركتها. وسيتأهب دماغه لتلقي الإشارات، وإرسالها إلى الخيال الذي يرسم مشهداً للنوق، وما هو عليه شكلها وحجمها وعددها. وللفراغ والهدوء في المساحة الرملية الكبيرة التي تمشي فيها النوق بما يسمح لأصوات حوافرها أن تكون مسموعة، يتحول هذا المتلقي في أثناء سماعه الصوت المجهول إلى رسام أو إلى فوتوغرافي، عبر خياله المتحفز لتفكيك الصوت المسموع، في مباراة كرة القدم المبثوثة.
إذاعياً يحدث الأمر نفسه، سيتخيل المستمع حركة الكرة وانتقالها بين الأقدام. ولكي يكتمل المشهد سيتخيل شكل الأحذية الرياضية في أقدام اللاعبين، والألوان التي يرتديها كل فريق. وفي لحظة تصادم لاعبٍ مع خصمه، سيحدث في خيال المتلقي تصادم ألوان أولاً، ثم يركب أشكالاً بشرية للألوان. يبدأ الخيال بتحليل السهل لينتقل إلى المرحلة الأصعب لاحقاً، تستدعي الأصوات أشكالاً مختلفة من التداعيات النفسية المرتبطة بالذاكرة، وبمراحل تطورها. وهو تماماً ما يجعل الخيال متحرّكاً ومتطوراً حين تلقي صوتٍ ما.
هذا ما لا تفعله الصورة، إذ تثبط الصورة الخيال وتلجمه، وتضعه في توازٍ تام مع الواقع، ضمن كادر الواقع نفسه، بحيث يمنعه الكادر من التجاوز، بينما مع الصوت يستطيع الخيال التجاوز والتحليق، والوصول إلى أماكن خطيرة ومحرّمة. لهذا يحرّم متشددون دينيون صوت المرأة، إذ يدركون جيداً الأثر الذي يتركه صوتها المغناج على خيال الجاهل به، وغير المعتاد عليه. لهذا أسموه (فتنة)، غير أن الفتنة ليست في الصوت، بل في إيحائه، الإيحاء النابع من الحرمان، الحرمان الذي ينشط الخيال، الخيال الذي يرسم للصوت شكلاً مشتهىً يشعل الغريزة، الغريزة التي تخيف صاحب السلطة الدينية.
هل لهذا أيضاً أخاف صوت الحرية الذي أطلقه شباب العرب في الشوارع، قبل ست سنوات، أصحاب السلطة السياسية؟ هل أخافهم تأثير الصوت على خيال الآخرين الذين مكثوا في بيوتهم يسمعون؟ هل أخافهم ما يمكن للخيال أن يفعله، إذا ما تمكّن من صاحبه؟ هل أرعبهم فقدهم السيطرة المستدامة على خيال شعوبهم، فحولوا أصوات الحرية إلى صور يومية للدم والموت واليأس، بحيث يعود الخيال الجمعي إلى إطاره المحدّد ويفقد قدرته على التجاوز؟ وهل اختراع الصورة الرقمية المباشرة الذي أنجزه الخيال البشري أيضاً سيكون سبباً في تثبيط الخيال الجمعي للبشرية، ليبقى محصوراً لدى نخبة قليلة العدد، بينما يدفع الباقون ضريبة التقدم التكنولوجي الذي حوّل الخيال إلى مصطلح أدبي فقط؟

دلالات

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.