تحولات حماس ومصر في المصالحة الفلسطينية

تحولات حماس ومصر في المصالحة الفلسطينية

29 سبتمبر 2017
+ الخط -
أعلنت حركة حماس، وبشكل مفاجئ من القاهرة، قبولها بحل لجنتها الإدارية في قطاع غزة، وتمكين حكومة التوافق من مزاولة مهامها في القطاع، والموافقة على إجراء انتخابات عامة رئاسية وبرلمانية بعد ستة أشهر من تشكيل الحكومة التوافقية الجديدة، المفترض أن تنتج عن حوارات وطنية فلسطينية ثنائية فتحاوية حمساوية أولاً، ثم فصائلية موسعة تحتضنها القاهرة في الفترة المقبلة.
بدا انفتاح "حماس" على الجهود المصرية والمصالحة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس مفاجئاً، خصوصا أنها ركزت جهودها شهورا طويلة على تطوير العلاقات الأمنية مع النظام المصري، كما على التفاهمات مع القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، لتحسين الأوضاع البائسة الكارثية والمنهارة في غزة. والمفاجأة الأخرى من القاهرة نفسها، التي توقفت منذ ثلاث سنوات تقريباً، أي منذ الحرب العدوانية الإسرائيلية الثالثة على غزة صيف 2014، عن بذل أي جهود في ملف المصالحة الفلسطينية، وانكبت هي الأخرى أخيرا على الجانب الأمني في علاقاتها مع "حماس"، وغزة بشكل عام، مع السعي إلى تعويم دحلان، وإعادته إلى المشهد السياسي الفلسطيني من البوابة الحمساوية الغزاوية.
لماذا تغيرت المواقف؟ وكيف يمكن فهم الانعطافات والتحولات المفاجئة في مواقف كل من "حماس" والقاهرة على حد سواء؟ سعت القاهرة، بشكل مباشر، إلى إفشال الوساطة التركية التي طلبها الرئيس محمود عباس، نهاية أغسطس/ آب الماضي، وتعاطت معها قيادة "حماس" الغزية بلامبالاة وتجاهل، مع الاحتفاظ بالوساطة في الملف الفلسطيني الداخلي والفلسطيني الإسرائيلي بشكل عام.
إقليمياً، وفي سياق احتكار الورقة الفلسطينية، سعت القاهرة إلى تقوية موقفها، أو محورها 
الإقليمي. وفي السياق، إضعاف وتحجيم ليس فقط أي دور تركي، وإنما حتى أي دور قطري في غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام. لا يقل عن ذلك أهميةً ومركزيةً، سعي النظام المصري إلى الاستثمار التجاري المعتاد والكلاسيكي من أنظمة الاستبداد العربية القضية الفلسطينية، لتسويق نفسه، وحصد مكاسب سياسية واقتصادية من إسرائيل وواشنطن، عبر تقديم نفسه، وعرض خدماته للمساهمة، ولعب دور أساسي في الجهود والسياسات الأميركية الإسرائيلية في المنطقة، بما فى ذلك خطط استئناف عملية التسوية، وضمان أن لا يكون هناك تمرّد أو خروج عن السيطرة تحديداً في السياق الفلسطيني.
فلسطينياً أيضاً، فهمت القاهرة أن التفاهمات الحمساوية الدحلانية برعايتها لن تكون قادرةً على إحداث تغيير جذري في الأوضاع المنهارة في غزة، وربما لن تكون مجديةً وحدها، لإعادة دحلان إلى المشهد السياسي الفلسطيني بشكل جدّي وفعّال، والأهم ربما المغامرة بفصل غزة عن الضفة، وتحمل مسؤولياتها في السياقات والجوانب المختلفة السياسية الاقتصادية الاجتماعية والأمنية.
إذا كان كل ما سبق مفهوماً، أو يمكن وضعه في سياقه التاريخي السياسي، فإن ما بدا مفاجئاً، وحتى مستعصياً على الفهم والاستيعاب، تساوق "حماس"، بل وحماسها واندفاعها لملاقاة الجهود والوساطة المصرية المستجدة، على الرغم من الجفاء، وحتى معرفة "حماس" بطبيعة النظام الاستبدادية القمعية، وعلاقاته الوثيقة، الأمنية تحديداً والمتنامية، مع الحكومة الإسرائيلية.
ربما يشكل الأمن قاعدة أساسية لفهم موقف "حماس" المفاجئ، إضافة إلى الإطار الفكري السياسي لمسؤول "حماس" الجديد في غزة، يحيى السنوار، الذي فرض سيطرته، ليس فقط على القرار الحمساوي المحلي في غزة، وإنما على القرار الحمساوي الموسع والعام.
تنظر حركة حماس، أو بالأحرى قيادتها الجديدة، متمثلة بيحيى السنوار، المستحوذ والمتحكم (مع القيادة العسكرية) بكامل القرار السياسي للحركة، بعد نقله إلى الداخل، وإلى غزة تحديداً، تنظر إلى كل الملفات من المنظور الأمني، العسكري مجازاً. وتعتقد أن القاهرة التي تحتاج الحركة لإنقاذها أو لمساعدتها في معركتها الفاشلة الخاطئة اليائسة ضد "داعش" سيناء، ستتفهم أو ستصرّ على بقاء القرار الأمني في غزة بيد الحركة، ولو على المدى القصير، وحتى المتوسط في ظل حاجة السلطة شهورا، وربما سنوات، للتعافي، والإمساك بالقرار الأمني في غزة، كما هو حاصل في الضفة الغربية.
حاولت قيادة حركة حماس كذلك استغلال العلاقة المتوترة بين النظام المصري والرئيس عباس في الفترة الأخيرة، وفي ملفاتٍ، مثل الضغط المبالغ فيه ضد غزة، وعودة دحلان إلى المشهد السياسي، حيث تشعر الحركة أنها أقرب إلى القاهرة من أبو مازن، وهذا يعيطها الأفضلية عليه، أو على الأقل يجعل وساطة القاهرة أكثر حيادية ومصداقية.
تعتقد "حماس" كذلك أنها توافقت مع القاهرة على جوهر المصالحة أو فلسفتها، مثلما جرى في التفاهمات مع محمد دحلان. سيكون الأمن بيد "حماس" والسياسة والاقتصاد بيد السلطة، سواء أكان هذا دحلان أو محمود عباس، بمعنى أن حفظ الأمن في الداخل وعلى الحدود سيبقى بيد الحركة الإسلامية وأجهزتها الأمنية، والملفات السياسية والاقتصادية تحديداً، في ما يتعلق بإعادة إعمار غزة، وجلب المساعدات لها سيكون بيد فتح أياً كان من يمثلها.
الفلسفة أو المغزى في جوهر الوساطة المصرية المستجدة هنا أننا سنكون بصدد تسوية أقرب 
إلى النموذج اللبناني الفاشل، حيث تظل "حماس" لاعباً مركزياً وأساسياً ومتنفذاً أمنياً وسياسياً. ولكن بما يتلاءم مع السياسة التي يفرضها الطرف الإقليمي الأقوى هنا، أي القاهرة، منه إلى التسوية التونسية المحلية، حيث يتوارى الإسلاميون عن مفاصل القرار الأساسي السياسي والأمني في مقابل شراكة في الحكم، ووفق المعادلة التي صاغها زعيم حركة النهضة في تونس، الشيخ راشد الغنوشي، الخروج من الحكومة (أحياناً) والبقاء في الحكم.
يجب الانتباه إلى أن قيادة حركة حماس السابقة وقيادة الخارج تحديداً، ممثلة بخالد مشعل، سعت دائماً إلى نموذج أو تسوية أقرب إلى الشكل التونسي، بينما سعت قيادة الداخل العسكرية تحديداً، وهي التي كانت متنفذة أصلاً، وباتت الآن مهيمنة ومتحكّمة بكامل القرار الحمساوي، نحو النموذج اللبناني. الاحتفاظ بالقرار الأمني وترك الملف السياسي بيد السلطة وحركة فتح، شرط عدم المساس بالملف الأكثر حساسية، أي السلاح الذي بات بمثابة الغاية، مع أنه يفترض أن يكون وسيلة للهدف، أي التحرير، وليس سبباً للاقتتال أو انهيار (وتفكك) الوحدة الوطنية التي بدونها لا يمكن الوصول لأي شيء.
نحن أمام اجتهاد خاطئ من قيادة "حماس" العسكرية والسياسية، والتغاضي عن (أو تجاهل) السمسرة الإقليمية والدولية لنظام السيسي بالورقة الفلسطينية، وفق النموذج الكلاسيكي لأنظمة الاستبداد التي أسقطتها الثورات، ويُراد إرجاعها عكس المنطق، وحركة التاريخ. والأهم من ذلك كله أن ثمن التوافق المباشر مع الرئيس محمود عباس، على المدى الاستراتيجي، أقل من ثمن التفاهم المرحلي والتكتيكي مع نظام المخابرات المصرية. وببساطة، لن يقبل الرئيس عباس على علّاته، بتسويةٍ أقل من الحد الأدنى المتوافق عليه فلسطينياً، والتي سقفها أعلى بكثير مما قد يوافق عليه السيسي، لتحقيق مكاسب ضيقة لنظامه، المنهار والساقط ولو بعد حين.