في تداعيات عملية القدس

في تداعيات عملية القدس

28 سبتمبر 2017

(الشهيد نمر الجمل/ العربي الجديد)

+ الخط -
شكلت العملية الفدائية صباح الثلاثاء (26/9)، صدمة كبيرة لجميع المستويات الأمنية والسياسية الإسرائيلية، وقد وقعت على مدخل إحدى المستوطنات اليهودية المقامة على أراضي مواطنين فلسطينيين في الشمال الغربي من القدس المحتلة، وأدت إلى مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين وإصابة رابع بجروح خطيرة، واستشهاد منفذ العملية نمر الجمل (37 عاما)، من قرية بيت سوريك القريبة من المستوطنة. وتختلف هذه العملية عن عمليات فدائية كثيرة سابقة، خصوصا أن منفذها متزوج وله أربعة أطفال، وحاصل على تصريح عمل في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، ما يعني أنه اجتاز فحوصا أمنية كثيرة من الأجهزة الإسرائيلية المختلفة قبل التصريح له بهذا العمل. ومن شأن هذا الأمر أن يربك الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ويضعها في موقع المتخبط، ما قد يدفعها إلى إعادة النظر في كل الآلية القائمة المتعلقة بمنح التصاريح للمواطنين الفلسطينيين، خصوصا أن السلطات الإسرائيلية تستخدم التصاريح كجزء من سياسة العصا والجزرة، وتعتقد أن اهتمام الفلسطيني الحاصل على تصريح عمل هو بكيفية الحفاظ عليه، للاستمرار في العمل في مرافق العمل الإسرائيلية، في ظل الضائقة الاقتصادية التي يغالبها الفلسطينيون، وعدم قدرة السلطة الفلسطينية على إيجاد حل للبطالة وللأزمة الاقتصادية القاسية. حيث تستخدم إسرائيل التصاريح الممنوحة للعمال الفلسطينيين وسيلة لتحييدهم، ومنع مشاركتهم في أعمال المقاومة المختلفة، وخصوصا أن قادة أمنيين وسياسيين إسرائيليين تغنوا، أخيرا، بنجاح تلك السياسات، والادعاء بنجاح المؤسسات الأمنية الإسرائيلية في إنهاء عمليات المقاومة الفلسطينية، لتأتي عملية نمر الجمل لتؤكد فشل هذه السياسات والأساليب.
وقد جاءت العملية الفدائية النوعية في ذروة احتفالات المجتمع اليهودي بأهم الأعياد اليهودية 
وأقدسها، بعد عيد رأس السنة العبرية بأيام، وقبل الاحتفال بيوم الغفران وعيد المظلة. وقد أدى إلى تعكير الأجواء وتوتيرها مقتل ثلاثة من عناصر الأمن الإسرائيليين في العملية، الأمر الذي سيعيد طرح موضوع الاحتلال والاستيطان وكلفته البشرية والاقتصادية إلى النقاش العام في المجتمع اليهودي، بعد أن تراجع كثيرا في الفترة الماضية، في ظل سياسة ممنهجة ومخططة، يقوم بها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تقوم على إلغاء القضية الفلسطينية ومسألتي الاحتلال والاستيطان من الوعي المجتمعي اليهودي وإسقاطها نهائيا، والتركيز على قضايا أخرى، مثل الموضوع الإيراني وحزب الله وتشكل المنطقة بعد الاقتراب من نهاية الحرب في سورية.
شكلت العملية الفدائية الفلسطينية ضربة قوية لمشروع إسرائيلي تبلور، ويقضي بحل أزمات ومشكلات فلسطينية من خلال العمل والتعامل مع المستوطنات، سواء بتشجيع العمال الفلسطينيين على العمل في شتى المرافق الاقتصادية في المستوطنات، بعكس العمل داخل إسرائيل الذي يتركز في البناء والزراعة، فيما تتعامل السلطات الإسرائيلية بمعايير أكثر مرونةً مع منح التصاريح للعمال الفلسطينيين في المستوطنات في الضفة الغربية، بما فيها المقامة على أراضي القدس الشرقية المحتلة. كما أن سلطات الاحتلال، وبتمويل من مؤسسات غربية، بدأت العمل على إقامة مشاريع مشتركة في البنى التحتية بين المستوطنات اليهودية وقرى وبلدات فلسطينية، الطرق وشبكات الكهرباء مثلا، أو تزويد بعض القرى بالمياه من المستوطنات، أو حتى مشاريع بيئية، مثل الصرف الصحي ومحطات تكرير النفايات، وذلك لشرعنة الاستيطان وسرقة الأراضي الفلسطينية ومصادرتها، بحجة أنها تقدم خدمات للفلسطينيين أيضا، وتساعد في حل مشكلاتهم الاقتصادية والحياتية، ما قد يؤدي إلى تراجع الرفض والمعارضة الدوليين للاستيطان، وكسر حملة المقاطعة الدولية للمستوطنات ومنتجاتها. وتعتقد إسرائيل أن تلك 
السياسة المخططة ستنجح في تغيير مكانة الاستيطان والمستوطنين في الوعي الجمعي الفلسطيني، من سلوك احتلالي مرفوض إلى حالة مفروضة قد يتم التعايش معها، اعتقادا من إسرائيل بأن إجبار الفلسطينيين على العمل في المستوطنات، في ظل عدم قدرة الاقتصاد الفلسطيني على إيجاد حلول للبطالة، وذلك بسبب سيطرة الاحتلال على هذا الاقتصاد والتحكّم به، كما أن من شأن حصول تجمعات فلسطينية على تمويل دولي، خصوصا من مؤسسات أميركية، لإقامة مشاريع مشتركة مع المستوطنات في البنى التحتية، أن يؤدي إلى تطبيع العلاقة بين الشعب الفلسطيني والمشروع الاستيطاني، لما له من مصلحة إسرائيلية استراتيجية، إلا أن عملية القدس أخيرا جاءت لتفشل تلك السياسات، ولتعيد تأكيد أنه لا تعايش مع الاستيطان بأي شكل.
بعد حدوث العملية الفدائية، والتي شكلت حالة نوعية، سواء من حيث منفذ العملية أو مكانها أو نتيجتها القاسية إسرائيليا، بدأت دعوات إسرائيلية إلى معاقبة الفلسطينيين، سواء من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزراء، ومن قادة الأجهزة الأمنية، والتهديد بإجراءات عقابية ضد الفلسطينيين، وذلك عبر تحميل القيادة الفلسطينية والرئيس محمود عباس وباقي الفصائل مسؤولية العملية، والادعاء بأن التحريض الفلسطيني في وسائل الإعلام والمناهج التعليمية هما السبب الذي يؤدي إلى العمليات، وليس الاحتلال والاستيطان والإجراءات الإسرائيلية العنصرية.
تبقى الرسالة المهمة التي حملتها عملية الشهيد نمر الجمل في إحدى مستوطنات القدس، أن محاولات إسرائيل زيادة قنوات الاتصال مع المجتمع الفلسطيني، والتركيز على الحلول الأمنية والاقتصادية، لا يمكنها أن تنجح، ولا يمكن للشعب الفلسطيني أن يرفع الراية البيضاء، ولا يمكن لهرولة بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع مع دولة الاحتلال أن تؤدي إلى كسر الإرادة الوطنية الفلسطينية وهزيمتها، وأن الاحتلال والاستيطان لم ولن ينعما لا بالأمن ولا بالهدوء، طالما بقي الشعب الفلسطيني مشرّدا ومحروما من حقوقه السياسية الوطنية المشروعة، وأن عملية الشهيد نمر الجمل ليست الأخيرة ولن تكون.