المعذّبون في مصر

المعذّبون في مصر

27 سبتمبر 2017
+ الخط -
ما زالت أصداء تقرير "هيومن رايتس ووتش" عن أوضاع حقوق الإنسان والتعذيب في مصر مستمرة. هبت أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية وأعلامها لتهاجمه، فلجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب تقوم بزيارات ميدانية لأقسام الشرطة والسجون، وكالعادة يكذب أعضاؤها، الذين يترأسهم ضابط سابق، التقرير، ويذيعون أنه يتضمن اتهامات مرسلة، بل إن إحدى عضوات اللجنة صرحت أن قسم إمبابة، ذا السمعة السيئة، بمثابة فندق خمس نجوم. وذهبت وزارة الداخلية في الرد على التقرير في عدة بيانات وتصريحات، في مناسبات متفرقة، لتكرّر الكلام، على الرغم من أن كثيرين من ضباطها تمت إدانتهم في عمليات تعذيب، بينما راح الإعلام بكتيبة المطبلين وحاملي الدفوف يصف التقرير بأنه مكيدة من دول معادية لمصر، تمول المنظمة التي أصدرته، وهي نفسها الدعاية التي تستخدم ضد كل المعارضين ومنظمات المجتمع المدني، بينما لا تنقضي أيام حتى يظهر تقرير آخر يرصد بعض أوجه انتهاكات حقوق الإنسان، لكن بصورة أشمل وأعم. وهذه المرة يصدر التقرير من لجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، قبل أيام من زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي حرص على أن يرد بشكل مبطن على التقرير، قائلا إن حقوق الإنسان لا تقتصر على الحريات العامة والحقوق السياسية، فهي تتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أيضا. وهذا صحيح تماما، فمصر لا تشهد وحسب حبس آلاف من الشباب في السجون التي تزيد مساحتها وأعدادها، أو إغلاق للمجال العام ومنع أي شكل من أشكال التعبير، وإنما تشهد أيضا أنواعا أخرى من التعذيب والقهر والاستلاب، اقتصاديا واجتماعيا، في أكبر موجة من انتهاك كرامة الإنسان المصري بشكل لم يسبق له مثيل، من حيث معدلات الفقر والبطالة والعوز، وبؤس الحياة.
وقبل الخوض هنا في أشكال التعذيب المتنوعة، يمكن الوقوف أمام محطات رئيسية مرتبطة برد فعل السلطة على تقرير "هيومن رايتس ووتش"، أولها أن رد الفعل المتشنج والغاضب من السلطة ومؤيديها تقف خلفه عدة أسباب، منها توقيت نشر التقرير قبل زيارة السيسي الأمم المتحدة، واقتراب انتخابات الرئاسة، ما يسلط الضوء داخليا وخارجيا على سياسات النظام، 
وكذلك الانتقادات التي تتوسع يوما بعد يوم في أميركا أو أوروبا على انتهاكات النظام وتضييقه على مساحات التعبير، سواء من خلال حجب المواقع (ما يزيد عن 420 موقعاً)، أو مصادرة أعداد صحف، مثل "البوابة نيوز" المعروفة بتأييدها النظام، أو إغلاق مكتبات (مؤسسة البلد أخيراً)، أو تشريعيا بإصدار عدة قوانين مقيدة للحريات، ومكبلة لحركة المجتمع المدني، مثل قانون الجمعيات أخيرا، ما استدعى تقليص المساعدات الأميركية لمصر.
وقد استهدفت حملة النظام للرد على التقرير الداخلي، فليس هناك رأي عام خارجي أو قوي ستسمع صوت النظام من خلال الإعلام المصري الذي أصبح من أدوات السلطة، حتى لو ادعى الاستقلالية. إذن، يستهدف النظام تلافي أثر مثل هذه التقارير داخليا، ليثبت أن النظام القائم مختلف عمّا سبقه من نظم، فهو لا يمارس التعذيب بشكل منهجي، أو أداة لانتزاع الاعترافات أو التنكيل وكسر إرادة كل المعارضين.
الواقع أكثر سوادا مما جاء به تقرير "هيومن رايتس ووتش"، أو غيره من التقارير الحقوقية المحلية والدولية، فالصورة كما نراها تتضمن أشكالا متنوعة من الانتهاكات ضد السياسيين، أو من لم يقترب من السياسة، فقد شهدت مصر والرأي العام حوادث قتل خارج القانون، منها تصفية مجموعة اتهمت بقتل الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، ثم تبين عكس ذلك. والحالات المشابهة عديدة، منها مقتل بائع الشاي في مدينة أكتوبر على يد ضابط، ومقتل سائق في الدرب الأحمر على يد أمين شرطة، ومثلها حالات عديدة أثارت بعضها احتجاجاتٍ واسعة، كما حدث في مدينة الأقصر مرتين، تجاه عملية تعذيب في أقسام الشرطة. ويجد المتتبع أخبار الصحف المصرية مثل هذه الحوادث، التي يفوق عددها عشرات المرات ما ذكره تقرير "هيومن رايتس ووتش" الذي استند على مقابلات مع 19 ممن سبق سجنهم.
إذن، لا تحتاج حالات التعذيب في السجون أو التصفية التي تتواتر أخبارها، إلى تقارير خارجية، والسجناء في مصر الذين لا نعرف إلى كم وصل عددهم بدقة معرّضون لمثل هذه الممارسات، وأحيانا يقتلون بقصد وعمد، مثل حوادث قتل تسبب فيها الإهمال الطبي أو التكدس في السجون والعيش في ظروف غير آدمية، ولا ننسى حملة الموت التي حصدت أرواح معتقلين عديدين في الصيف الماضي.
هذا عن المواطنين المصريين، الذين تعثر حظهم فقتلوا على أيدى أجهزة الأمن، أو عن المعتقلين في السجون. هناك أنواع أخرى من التعذيب وانتهاك الكرامة مسكوت عنها، ولا تلتفت إليها نخب النظام أو حتى الأحزاب التي تدّعي حمل لواء الإصلاح أو "المعارضة الوطنية"، بعد أن تم تدجينها بل راح بعضها يفبرك تقارير تجمل صورة الواقع.
غير التعذيب في أقسام الشرطة أو السجون، هناك انتهاكات أخرى اقتصادية تجعل الحياة 
اليومية لمواطنين مصريين كثيرين بمثابة سجن بلا جدران، قد يخيّل لك أنك حر، لكنك مستلب ومقيد الحركة والإرادة، فلا تستطيع أن تصرّح برأي، حتى على منصات التعبير الإلكتروني التي يراد أن يتم تجريمها بتشريعاتٍ يصنعها نواب السلطة. تخيل رحلة عمل يوميا تستقل فيها ثلاث وسائل مواصلات، وتسجن داخل الطرق المزدحمة والمواصلات غير الآدمية، وقد تموت حين تسافر، خلال مسلسل نزيف الأسفلت المتكرّر، أو حوادث القطارات المأساوية. يمكن أن نتأمل حياة ملايين العمال الذين لا تكفي رواتبهم لأسعار السلع الغذائية الرئيسية، فتبيت ملايين الأسر وأفرادها يشعرون بالجوع. ويمكننا تلمس الإحباط والنفوس المعذبة من تكرار حالات الانتحار التي عادت مرة أخرى، وخصوصا بين فئات الشباب المعطلين عن العمل، أو أرباب العائلات الذين يضيق بهم الحال، فيندفعون إلى التخلص من حياتهم.
إننا أمام جرائم متكرّرة، في شكل يوميات تعذيب، ويمكن رصد المعذبين فيها كلٍّ حسب ما يعانيه.. فعلا لا تتمثل حقوق الإنسان فقط في الحق في التنظيم المنتهك أو الحق في التعبير الغائب أو السجن ظلما حتى لمشجعي نادي الزمالك، ولكن هناك ملايين تعذبهم السلطة، وتنهبهم، وتمص دماءهم بضرائب مباشرة وغير مباشرة، وبإيجاد طوابير من البطالة تقلل أجور العاملين، وبالانحياز إلى الاحتكارات التي ترفع أسعار القوت لتجوع الشعب. وإن لم تكن كل تلك المآسي تحيط بالشعب المصري ما كان ليثور. ولكن حين ثار، رأت السلطة أنه لا بد من تضييق الحصار عليه ومعاقبته، لكي لا يكرّر فعلته. لذا يمكن فهم لماذا تقمع السلطة قطاعاتٍ من الشعب وتعذبها، لا لشيء سوى إخافة الجميع، وقهر الكل بشتى الطرق، لكي تبقى سلطتها وصوتها فحسب، لكن دوام الحال من المحال.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".