كفاءات واعدة

كفاءات واعدة

25 سبتمبر 2017

(بهرم حاجو)

+ الخط -
في الطريق إلى العمل، وعدت الموظفة التي كانت مثابرة نفسها ألا تسمح لشيءٍ مهما كان أن يكدّر صفو يومها الذي بدأ مثل سائر صباحاتها جميلا وواعدا، مكّنها من تجاوز حالة السخط والغضب التي باتت تميز شخصيتها في المكتب أخيرا. تناولت فنجان قهوتها على الشرفة المكتظّة بالورود، فيما صوت فيروز ينطلق صافيا، وهي تغني "أعطني الناي وغنّي.. "، تتوقف كثيرا عند جملة زاهدا فيما سيأتي، ناسيا ما قد مضى، تروق لها جدا حالة الزهد والاستغناء. تحلم بيوم تصل فيه هذه المرحلة من الارتقاء والثراء الروحي الذي يجنّبها الحاجة إلى الآخرين، تترك فتات الخبز المبتل، وحبات الأرز المطبوخة على الحواف، من أجل العصافير التي تزقزق بلا انقطاع. وقد ألفت المكان الوادع الأخضر، ترتشف قطرات الماء في طبق فخاري صغير بين أصص النباتات، وترفع مناقيرها الصغيرة، احتفالا بالحياة السخية الحافلة بالفرح والوفرة.
وامتنانا لتلك السيدة فائقة الطيبة التي لا تكفّ عن العطاء، على الرغم من خيباتها المتراكمة، وهي تهرول يوميا إلى سيارتها مرغمة، خشية التأخر عن موعد عملها الذي صارت تصل إليه متأخرة متثاقلة، ما أصبح يعرّضها لحسم راتب، وحرمان من الزيادات السنوية والاستثنائية، علاوة على التنبيهات الخطية والشفوية مع التهديد باتخاذ إجراءات أشد، إذا ما تكرّر الأمر، غير أن الأمر يتكرّر دائما، يتهمها المدير الطاغية بالكسل، وبعدم احترام الأنظمة والقوانين والتعليمات التي تنص على ضرورة التقيد بمواعيد العمل الرسمي، دائما ما تقرع نفسها على التراخي الصباحي الذي يغريها بالبقاء بين ورودها وعصافيرها الزائرة، لأنها كانت على يقين بأنها لحظاتٌ ثمينةٌ نادرة، تساوي يوما بأكمله، يتغير مزاجها حال الاصطدام بسحنة المدير المتجهمة طوال الوقت. تتساءل بغضب: ما الذي يدعو ذلك البائس الظالم عديم الضمير على التجهم؟
على الأقل هو معفى من الختم الصباحي، بحكم المنصب. وبالتالي، هو ليس مقيدا بموعد محدّد، وهذا سبب كبير للبهجة، يستطيع تناول قهوته بتأنٍّ كبير، يستمع إلى موسيقاه المفضلة، أو يتابع نشرات الأخبار، ويتبادل حديثا خفيفا مع زوجته وأولاده، وينطلق متباطئا مسترخيا إلى مكتبه، من دون أن يضطر إلى الاعتذار أو اختلاق الأعذار الواهية، المرة تلو الأخرى. وبمجرد وصوله، يهرع موظف وصولي صغير لالتقاط الحقيبة، والهمس بالوشايات الصغيرة بحق بقية الزملاء تقربا ذليلا، وما أن يتربّع عطوفته على عرشه الصغير، حتى يبدأ في مهام عمله، المتمثلة في تنغيص عيشة مرؤوسيه، وتعقيد معاملات المواطنين الغلابى، ومرمطتهم بين المكاتب، فقط لتأكيد إحساسه بالأهمية والتفوق، لكن الرجل جاحد فقير المخيلة، بروحٍ رتيبة متقشفة، لا يقدّر النعمة، ولا يحفل بالتفاصيل الجمالية الصغيرة، وهذا ما يفسّر توتره الدائم، لأنه منهمك في تحقيق أمجاد إدارية عابرة، لعله يرتفع درجة أخرى تقرّبه من تحقيق حلمه الكبير بمنصبٍ أكبر، يوفر امتيازات أكثر تبيح له التنكيل أكثر بخلق الله.
تذكّرت البدايات، حين تسلمت الوظيفة فرحةً بحظها الكبير الذي أتاح لها العمل في تلك المؤسسة الكبرى، حيث التماس المباشر مع المواطنين، وتقديم الخدمات النوعية لهم، وبلوغ درجة من الرضا عن النفس جرّاء العمل بذمة وضمير.. أقبلت على العمل بحماسة واندفاع، وحققت تمييزا كبيرا لأنها كانت مليئةً بالشغف، وبروح المبادرة والابتكار والرغبة في التعلم والتطور وتحقيق الذات، قبل أن يقرّر المدير بمزاجية مقيتة، وتعسف كبير غير مبرّر، أن يكسر روحها المتوثبة، حين نقلها قبل شهر، من دون اسشارتها إلى قسمٍ لا يقع في دائرة اختصاصها، ولم تجد كل محاولاتها في الاحتجاج على القرار الجائر غير المفهوم، حيث لم يكن مطلوبا منها أي شيء سوى الوجود خلف المكتب في مواعيد محدّدة، حالة مألوفة يسمونها في أروقة الدوائر الحكومية بالتجميد، حيث تعطل الكفاءات الواعدة بقرار رسمي.
حين وصلت إلى مقر عملها، وتنفيذا لوعدها الصباحي بالبهجة وعدم الاكتراث. أخذت تضحك بلا توقف، فيما كان الموظف الوصولي الواشي الصغير يوزّع الحلوى، ويتقبل التهاني بمناسبة تكليفه بمهام منصبها القديم.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.