تعقيب... دفاعاً عن الحدود القاسية

تعقيب... دفاعاً عن الحدود القاسية

25 سبتمبر 2017

(مروان قصاب)

+ الخط -
ليس هذا رداً على مقال عوني بلال "هل لله حدود؟" في "العربي الجديد (20/9/2017) بقدر ما هو تعقيب يوافق الكاتب في بعض الأمور، ويخالفه في بعض آخر.
أقول، وأنا محب للإسلاميين وللفكر الإسلامي: لا شك أنّ قومي، بشكل عام، كانوا ولا يزالون كسالى فكرياً، وعلى صعيد المبادرة السياسية، وكثيراً ما جُرُّوا بسهولة (كما لاحظ الكاتب) إلى معارك وهمية مع طواحين الهواء؛ استهلكتهم، ونجحت في تعليبهم ضمن إطار دفاعي، يستخدم مفردات مستهلكة، ومعاني كذلك. بل كثيراً ما نجحت أنظمة عربية مستبدة لم تعر الإسلاميين حبة خردل؛ بل منحتهم أقوى أعواد مشانقها صلابة، وأشدّ سجانيها غلظة ووحشية. وكثيرا ما نجحت في كسب مودة القوم على مائدة غداء في مؤتمر "قومي إسلامي"، قال فيه الزعيم المهيب كلمة أو اثنتين في حب الإسلام ونبيه، أو في ابتذال فلسطين، فانصرف القوم وقلوبهم تلهج بالثناء على الظالم الغشوم.
عجزت معظم الحركات الإسلامية عن المبادرة في ملاعب السياسة، واكتفت بردّات الأفعال المتأخرة جداً على ما يحاك لها ولأوطاننا من مؤامرات. لكن الرد السليم (برأيي) حيال شبهة الحدود لا يكون في التحوّل عن الموضوع وفرض الأجندة البديلة. إنّ اعتبار الحدود خاصرة رخوة للدين أو الفكر الإسلامي، كما كتب الكاتب، هو انعكاس لحالةٍ عامةٍ يستبطن فيها معظمنا (بل كلنا أحيانا على الأقل) المرجعية الغربية في الحكم على الأمور. لقد بلغ الحد بنا، أفرادا
ومجتمعات وحركات (ولم يسلم من ذلك قادة حركات إسلامية عريقة، ناهيك عن الأحزاب من المشارب الأخرى) أن نقرأ جميعا من اللوح الغربي، فنستقي منه أجندات النقاش والأولويات، ونقيس إليه صوابية أفكارنا ومقبوليتها، حتى فيما يخص "المشروع الإسلامي" المنشود. إسلاميون كثر (من واشنطن إلى العالم العربي) لا يفهمون من السياسة إلا العمل على النص التالي الذي سنخطب فيه ود الغرب وفلسفاته وسياساته، ونظهر فيه متسقين مع ما ينشده منّا الرعاة أو الأصدقاء أو الأنداد في الغرب، أو الشركاء في حوار الأديان هناك (المقصود طبعا مغازلة كنيسة الرجل الغربي الأبيض وكنيسه تحديدا، ولا عزاء للإخوة المكسيكيين أو الأفارقة أو المسيحي العربي)، ولا يلبث هذا الإسلامي المسكين أن يقدّم تنازلا، حتى يسارع الرجل الأبيض، ومؤسسته، إلى الإشادة بالعربي الطيب، متّبعين ذلك بترديد كلمات جهنم الملتهبة: "هل من مزيد"؟
التسليم باعتبار الحدود نقطة ضعف، ولو صحب ذلك محاولة أخذ زمام المبادرة بالحديث عن موضوع أهم، لن يفي بالغرض. إنّ فرّ الإسلامي من شبهة قسوة الحدود، فماذا يصنع مع "للذكر مثل حظ الاثنين"؟ وكيف يفعل إزاء "ناقصات عقل ودين"، والشبهات الاستشراقية حول سيرة النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وحول التاريخ الإسلامي كله، بل حول حاضر المسلمين المر، حين يُحسب علينا غصبا وكرها مواقف عتاة الإجرام الذين قتلوا ودمروا باسم الدين؟
الحدود آلية عظيمة تستحق الحديث عنها بفخر وقوة، وتستحق من الإسلامي أن يشن بها هجوما على خصومه، لا أن يواريها خجلاً وضيقاً. حين أتفكّر مثلا في حد السرقة، لا أتصوّر مشهدا لفلاح عجوز منهك دقيق العود عجوز (وليكن على صورة عبد الوارث عسّر) يساق لتقطع يده، لأنه سرق رغيفا من أفران الباشا الفظ الغليظ (وليكن على صورة رشدي أباظة) ليطعم ابنته المريضة التي توشك أن تهلك بالسرطان وبالتهاب الكبد.. حين أتفكّر في قطع يد السارق، فإنني دائما ما أتخيل مجموعة من الرجال البيض الأوروبيين (أوروبيون بالأصالة أو بالنسب البعيد بالنسبة لمن استوطن منهم في العالم الجديد)، وأكاد أراهم في أبراجهم العالية الشاهقة، جالسين في المكاتب الفارهة، مرتدين بزّاتهم الأنيقة، يخططون للانهيار القادم في سوق الأسهم، أو في سوق العقارات، ليجنوا لأنفسهم ومن يمثلون أرباحا هائلة، على أنقاض فشل الملايين في تسديد أقساط بيوتهم، بفعل خطة هؤلاء "المهندسين الماليين"، واضطرار تلك الملايين من العوام للانتقال إلى بيوتٍ أقل حظا، أو حتى الارتماء على قارعة الطريق. حين أتفكّر في حد السرقة، أتصور اجتماعا على ظهر باخرةٍ قبالة ساحل غرب أفريقيا، في مطالع القرن العشرين، يخطط فيه مجموعة من الغزاة البيض مشروع سرقة نفط نيجيريا، لصالح شركتين أو ثلاث في غرب أوروبا، والاستراتيجية المتبعة لإدامة هذه السرقة، من خلال سحق البلاد بالاحتلال ردحا من الزمن، وبتوظيف مستبدّين يواصلون سفك دماء الناس وسرقتهم في حقبة أخرى. حين أتفكّر في حد السرقة، أتذكّر الماس والحديد والفوسفات، ونطاقات زراعة القطن والأرز والزيتون والحمضيات، وبلاد البهارات والمكسّرات والأخشاب والخضروات الحقلية والفواكه الاستوائية التي غزاها المستعمرون في طول آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية وعرضها، وانتهبوها عن آخرها.
ترى، لو كان قادة هؤلاء الرحالة والغزاة والقتلة والسراق ومشغّلوهم يدركون أنّ عاقبة ما يفعلون هي قطع لليد، أتراهم كانوا يمضون في تخطيط (وتدبير) ما هم عليه عاكفون؟ أتراني فعلا سأجزع وأحزن وأغضب لإنسانية مدّعاة، لو قطعت يد مصمم سياسة اقتصادية أفقرت الأرياف، عن قصد، وأسكنت الناس في أحزمة الفقر حول المدن في ظروف تعيسة مهينة،
وضربت العملة المحلية عن سابق إصرار، ومحقت مدخرات الناس بترتيبٍ محكم، وحولت مئات الآلاف إلى عاطلين عن العمل، وألقت آلاف الأطفال في الشوارع للاستجداء، ودفعت بهم وبنساء مسكينات ورجال إلى عالم الجريمة والدعارة؟ من لي بقطع يد سارق من هؤلاء أو عشرة، أو عشرين، من خطّطوا وأداروا الحقبة الاستعمارية، وأحقاب الاضطهاد والغصب التالية، فتنجو بردعهم الملايين من فقراء الناس ومساكينها؟
تحتم الأمانة على الإسلاميين حمل مشروعهم كما هو (لا يعني هذا ضرورة الالتزام بكل سواد في بياض كتبه القدماء أو المعاصرون، أو برأي فقهي صادم دون غيره) ومنح هذا المشروع الكرامة والاحترام اللائقين. ويتحتم عليهم أن يجتهدوا في عرض مبادئ دينهم وأفكاره، بما يقدم الحلول والأمل لعالم يضطرم بالفقر والجوع والظلم والاضطهاد وكل فجيعة، وما زالت حاجته لمخلص ومنقذ تزيّد وتكبر باضطراد غير مسبوق. ولن يكون الحل أبدا بتصميم نسخة منقحة من الفكر الإسلامي، تتساوق مع الفكر أو الأولويات الغربية. أليس في ظل هذه الأولويات وصلت الإنسانية إلى ما وصلت إليه من هندسةٍ جماعيةٍ كاسحة للقتل والتدمير، وبرمجةٍ للعقول، لتتقبل نسبية الفجيعة، فتكون عظيمة وكارثية إن كان القتيل واحدا في باريس أو لندن، ولا يتحرك مؤشر الانفعال الإنساني لو كان القتيل في بنغلادش أو العراق، اللهم إلا إن كانت أعداد الضحايا رقما من أربعة أو خمسة منازل فما فوق ذلك؟
قديما، قال الأجداد "الخيل من الخيال". ليست مشكلة الحدود في الحدود، بل في شرود من يحملون الفكر الإسلامي، ويسعون بذمته، وفي ذهولهم وكسلهم. قوموا للدفاع عن دينكم يرحمكم الله!
F135C1F1-39D5-4164-8F7F-D4D6C4D67B23
F135C1F1-39D5-4164-8F7F-D4D6C4D67B23
هارون عبد الرحمن
هارون عبد الرحمن