تقرير المصير بين كردستان وكتالونيا

تقرير المصير بين كردستان وكتالونيا

24 سبتمبر 2017
+ الخط -
في موعدين متقاربين، يزمع إقليم كردستان العراق، كما إقليم كتالونيا إسبانيا، إجراء استفتاء على الاستقلال. الأول في 25 من شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، والثاني في الأول من شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل. ومع اختلاف الواقعتين، كما المنطقتين، كما العوامل السياسية المرتبطة، كما الظرفين التاريخيين، هناك من يُقارن الحدثين، معتبراً أنهما يُشيران إلى حقوق مشروعة، وجب احترامها في المطلق.
يقع الحدث الكردستاني ـ العراقي في منطقة نزاعات وحروب وعنصرية متفاقمة، وقوميات متصارعة وأديان متواجهة ومذاهب متنافرة. كما أنه يحلُّ في منطقةٍ كانت من الأسوأ في إدارة التنوع، وفي احترام المكونات المختلفة للساكنين على أراضيها، وفي طريقة قيام الدولة المهيمنة في توزيع الدخل على الطبقات، كما المكونات، بطرائق شديدة التمييز. كما أنه يجري في ظل دولةٍ عراقية وصلت إلى حكم البلاد، بعد احتلال أميركي وهيمنة إيرانية، وتميّزت بفساد ساهم في إفقار إحدى أغنى الدول، بعد أن كانت حروب ومآرب ومؤامرات طاغيها السابق، صدام حسين، مع فساد منظم، قد أسّست لهذا الإفقار.
كردستان العراق مستقلة عملياً منذ قيام الحماية الأميركية على أجوائها في بداية تسعينات القرن الماضي. وقد تعزّز هذا الاستقلال، عملياً أيضاً، بعد سقوط الطاغية صدام حسين، وانحلال 
الحكومة المهيمنة في بغداد، ودخولها في منطق الانتقام المذهبي المختلط بالفساد العابر للمذاهب وللقوميات. كما تطورت العملية السياسية والاقتصادية والعسكرية المرتبطة بهذا الإقليم بمعزل شبه تام عما آلت إليه الأمور في باقي أصقاع العراق. لحنكةٍ سياسيةٍ أو إرادة شعبية أو توافق إقليمي أو دعم دولي؟ أو لتضافر كل هذه العوامل مجتمعة؟ لربما ستُتركُ الإجابة عن هذا للمختصين في المسألة، كما للمستقبل القريب، والذي علمتنا متابعته بأنه يُفشي "أسرار" ما كنا نمضي أوقاتاً حميمة في المضاربة على مُخرجاته.
وبمعزلٍ عن رواياتٍ تُشير إلى موضوعة الاستفتاء الكردي، قابلة للمساومة السياسية والاقتصادية والسيادية من القائمين السياسيين عليه، إلا أنه لا يمكن لمن تابع بتجرّد ـ وبعيداً عن التعصب ـ التطورات القائمة في هذه المنطقة، منذ عشرينات القرن الماضي، أن ينفي حق الكرد، كما جميع الشعوب الأخرى، في تقرير مصيرهم، وليس بالتأكيد على حساب مصائر الآخرين. وحتى لو كان هؤلاء الآخرون، أو بعضهم، قد صمتوا طويلاً عما آلت إليه الإدارة الكارثية لملف التنوع في بلدانهم.
في شبه الجزيرة الإيبيرية، وعلى الرغم من أن الحق في تقرير المصير لا يجب أن يكون انتقائيا، فمن الممكن القول إن الملف شديد الاختلاف. وأول هذه التمايزات ابتعاد العامل الإقليمي والدولي عن التدخل فيه، فلا جيران الشمال الفرنسيون، على الرغم من القلق الباطن، يهدّدون باتخاذ ما يلزم من إجراءات، إن قام الاستفتاء، والذي يعنيهم حتماً لوجود جزء من المقاطعة الكاتالونية على أراضيهم. ولا الأميركيون معنيون بإزعاج إحدى الجارات الفاعلات لإسبانيا، أي فرنسا، ما سيدفعهم إلى اتخاذ موقف تشابكي، يدعمون فيه الاستقلاليين في ملفات عدة، على الرغم من رفضهم استقلالهم من جهة أخرى. كما أن هذه البلاد تعيش وضعاً سياسياً وأمنياً مستقراً منذ نهاية سبعينات القرن الماضي، وهي تطبق اللامركزية الإدارية والسياسية المتطورة في منظومتها التي تضم 17 مقاطعة. وأحد العناصر الأساسية التي تميز نظامها اللامركزي عن الفيدرالية، كما الأميركية مثلا، هي وحدة المنظومة القضائية. ومنذ العام 2009، تتمتع المقاطعات باستقلاليةٍ مالية عن المركز، وبالتالي، صارت تشارك بنسبة كبيرة في الحصول على جعالة الضرائب التي كانت تمنح لها من المركز بنسبة عدد السكان. والأهم من هذا كله، لم يتعرّض المكون الكاتالوني للاضطهاد والتمييز والإقصاء.
إلى هذا وذاك كليهما، فإن السعي الأوروبي هو تجاه الوحدة بين الدول، ضمن منظومة سياسية 
واقتصادية مشتركة قائمة وتتطور. وبالتالي، يمكن أن تكون النزعة الاستقلالية عامل استغراب، على الرغم من الميول القومية المتصاعدة في الآونة الأخيرة. وفي دلالةٍ ملفتةٍ على التمسك بالوحدة الأوروبية، يصارع دعاة الاستقلال عن الدولة الإسبانية بإبراز انتمائهم غير المشروط لهذا المشروع الإقليمي. كما أنهم، وفي مفارقةٍ طريفة، يُطالبون بالاحتفاظ بالجنسية الإسبانية على الرغم من "انفصاليتهم"، لأنها تؤهلهم للبقاء أوروبيين، ريثما تتم عمليات التفاوض الطويلة والمعقدة للانتماء الأحادي إلى الاتحاد.
في المقابل، يمكن ملاحظة تشابه محدود في الإدارة الفاشلة سياسياً للملفين الكردي والكاتالوني من الحكومتين المركزيتين في بغداد ومدريد. وعلى الرغم من عدم وجود أية إمكانية للمقارنة بينهما من الناحيتين الشرعية والتمثيلية، إلا أنه تجوز بعض المقارنة في التخبط الذي تعيشه العاصمتان إزاء هذا الحدث الأساسي. وكما أن مدريد تتعامل وفقاً للقانون، وتتخذ الإجراءات الأمنية، كما المالية التي تراها مناسبةً لمنع وقوع الاستفتاء المزمع، فإن بغداد لا تستطيع، ولن تتمكن، من اتخاذ أي إجراء في هذا الاتجاه، إلا إن حصلت على تدخل خارجي داعم. فهي لا تسيطر، ولا حتى في أدنى النسب، لا أمنياً ولا مالياً على كردستان العراق.
إن جرى الاستفتاءان، ويبدو أنه تجري محاولات اللحظة الأخيرة لثني الكرد من جهة، من خلال تقديم التنازلات المطلوبة، أو لمنع الكاتالونيين من خلال الإجراءات العملية، فإن حق تقرير المصير، على الرغم من أنه مطلق، إلا أنه يصير أقوى مشروعية في دولة مستبدة أو فاشلة، تنتهك مصائر جميع مكوناتها. في المقابل، له أن يصير أضعف حجةً في دول تنعم بالديمقراطية، وبإدارة ناجحة للتنوع والاختلاف.

دلالات