القمع على أنغام موزارت

القمع على أنغام موزارت

24 سبتمبر 2017

ماذا لو استمتع الطغاة إلى موزارات؟

+ الخط -
أشفق على ذلك الفقير الهنديّ النحيل الذي ظن، يومًا، أن في وسعه السيطرة على شراسة أفعى الكوبرا بأنغام الناي، فكانت النتيجة أنه تلقى عضتها السامة، وهي تترنحُ طربًا.
على الأرجح أن هذا الهنديّ يمثل شعوبًا شتى، ما تزال آمالها مفرطة، بتغيير جينات القمع المتأصلة في خلايا سادتها، اعتمادًا على مقولة الفيلسوف الكونفوشي، منسيوس، الخادعة: "لو أن الملوك يحبون الموسيقى لكان الظلم قليلًا على الأرض".
والحال أنني، أيضًا، ما أزال أحمل الناي ذاته، وأكرّر التجربة ذاتها، لكن مع أفاعي كوبرا أشد شراسة، وقد تفاقم تفاؤلي، وأنا أرى المغني الأوبرالي الإيطالي بوتشيللي يزور الأردن، لإحياء حفل كبير بين آثار جرش الرومانية.
وعاودني التساؤل: ماذا لو أقنعنا حكامنا، بضرورة الاستماع إلى مقطوعات موسيقية عالمية، كموسيقى باخ وشتراوس وبتهوفن وتشايكوفسكي وموزارت، مثلاً، قبل اتخاذهم أي مرسوم قمعي، أو قبل التصديق على حكم بإعدام معارض أو قذفه خلف القضبان، أو قبل سحق مظاهرة ما؟
ماذا لو كان استمع عبد الفتاح السيسي إلى مقطوعة "بحيرة البجع"، قبل أن يتخذ قراره المشؤوم بسحق الاعتصام في ميدان رابعة العدوية؟ هل كانت ستسمو روحه إلى فضاء ملائكي بعيد في أقاصي الحلم، ويرى في المعتصمين سربًا من البجع، لا يطالب بأكثر من حريته في التحليق والتغريد خارج أقفاص القمع والاستبداد وانتهاك الحقوق؟
وماذا لو أصغى بشار الأسد إلى مقطوعة "ضوء القمر"، قبل أن يقرّر إطلاق غازاته الكيماوية على الغوطة الشرقية ودوما أو براميله المتفجرة على حلب، أو حتى قبل أن يقرّر أن لا سبيل للتعامل مع المظاهرات السلمية في مطلع الثورة إلا بالسلاح، هل كانت ستلفه سحابة من الشفافية، ويقرّر التحاور مع شعبه بالعقل والمنطق، ومنحهم مساحة الحرية التي طالبوا بها؟
وعلى الغرار ذاته، لو كان معمر القذافي وعلي عبدالله صالح وحسني مبارك من المداومين على الاستماع إلى سيمفونيات بيتهوفن، هل كانوا سيكبدون أوطانهم كل هذه الأثمان الفادحة، لقاء استخفافهم بثورات شعوبهم، والإصرار على مقابلة التظاهرات والاعتصامات بالرصاص والمدافع والطائرات الحربية؟
فليعذرني مينسوس، لأنني لا أؤمن بمقولته، بدليل أن معظم المستبدين في العالم كانوا من المغرمين بالفنون، فهتلر وأعوانه كانوا يحرصون على حضور حفلات الأوركسترا، ويقتنون اللوحات الفنية باهظة الأثمان، ويشجعون الفنون السينمائية، لكن ذلك لم يمنعهم من كفّ شرهم عن العالم.
وينطبق الأمر على مستبدينا وطغاتنا، إذ إن كل المناسبات الفنية الكبيرة التي شهدتها الأهرامات المصرية في عهود السادات ومبارك والسيسي، بما فيها حفلتا الموسيقار ياني، لم تشفع للشعب المصري المغلوب على قمعه من درء سوط الطغاة على ظهره، وسحق مطالبه بالخبز والحرية، وكذا الأمر بالنسبة للأردنيين الذين تشهد جرشهم كل عام مهرجانًا فنياً، يُدعى له عشرات المغنين والموسيقيين والشعراء، غير أن المهرجان لم يغير من واقع أنهم ما يزالون يعيشون ديكوراً ديمقراطيًّا، لا يمس صلب مطلبهم بالحرية الفعلية.
والحال أن المستبدين العرب لم ينقطعوا يومًا عن سماع الموسيقى، منذ العهدين العباسي والأموي، إذ لم تكن تمر ليلة عليهم، من دون أن تبسط فيها القصور للمغنين والراقصات والقيان والنبيذ والجواري، لكن ذلك لم يمنع أبو العباس السفاح من تناول طعام عشائه على أجساد بقايا أمراء بني أمية، وفي الوقت الذي كان يثمل بعضهم طربًا ونشوة، كان ثمّة رؤوس معارضين معلقة على أسوار القصور والميادين العامة.
وعلى خلاف مينسوس، أرى أن الشعوب العربية تتحمل قسطًا كبيرًا من الإسهام بالتشجيع على الاستبداد، من خلال أغانيها الشعبية الدموية، التي تجود بها قرائحها من آن إلى آخر، ولا تخلو من مفردات التضخيم الذاتي والتلويح بالسيوف والخناجر، كأن العالم كله ساحة معركة، ويكفي تلك التي تقول: "واللي يعادينا نحاربو.. بالسيف نقطع شاربو".
ربما نحتاج وقتًا أطول مما يعتقده مينسوس، لنؤمن بأن الموسيقى تصلح علاجًا للاستبداد، لكن كل ما آمله ألا ينطبق قول توماس مارلي علينا: "أولئك الذين لا يحبهم الله لا يحبون الموسيقى".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.