الكروان الشجيُّ

الكروان الشجيُّ

23 سبتمبر 2017
+ الخط -
لماذا ترتعش هكذا، يا موسى؟
لا تلومينني، يا حبيبتي، حقاً لا تلومينني، قد أرضعونا ولقَّحونا، أنشأونا وعلمونا ألا نغضب، فالسكوت من ذَّهب والقناعة كنز لا يفنى، والفقراء لهم الجنة. علمونا أنّ الحياة يجب أن تكون جانب الجدران، وإن استطعت داخل شقوقها، وهذا كله من طاعة الرحمن. لا تلومينني بعدما اغتصبوا كياني، بعدما فقدتُ إيماني في أن أنتصر أو أظفر بمثل حُسنِكِ ولو ملكتُ جوهرتكِ بين يديّ لا أدري كيف أحميها من طواحين الهواء التي تتقاذفنا بأمرٍ من ملك الإنس والجن والحيوان والطير والرياح.
صرخ موسى في حجرته، وبين جدرانها الأربعة: "أنا لا أرتعش بين يديكِ يا ريم، موسى لا يرتعش، من يرتعش شبحه أو نسخته الممسوخة التي عجنها الماضي الأليم ويطهيها الحاضر المشؤوم ليقدمها المستقبل المجهول جاهزةً على موائد بكتريا الموت وفطرياته".
دقت دعاء الباب على أخيها، اقتربت من حافة الباب وقالت:
- موسى أنت بخير؟ أتتحدث إلى أحد؟ موسى هل تسمعني؟
- نعم يا دعاء، أنا فقط أقرأ رواية، يمكنك أن تذهبي لا شيء هناك.
سألته أخته إن كان يريد أن يأكل، قبل أن تخرج في زيارة لإحدى صديقاتها، فأجاب بلهجة ساخرة: "شكراً لكِ يا أختاه، أكلتُ كثيراً حتى امتلأ جوفي، اذهبي وأنتِ مطمئنة على أخيكِ".
تمثلت جدران حجرته كأنها قفص فولاذي يحبس عصفوراً مغرّداً أو طائر الكروان، يصيب عقله بمسٍّ من الجنون أو رئتيه بالاختناق، حتى كاد يشعر أنّ الجدر الرقيقة لحويصلاته الهوائية تلتصق من قلة الهواء النافذ إليها، قرّر أن يخرج من البيت، فلاذ بشارع البحر الذي يطلّ على فرع النيل الدمياطي، يتلَّمس هواء الماء العليل علّه يخفّف من ضيق صدره المكروب.
في طريقه، أَذَنَ المُؤَذَّن لصلاة المغرب، حيث كانت خطواته تدنو من المسجد الكبير، هكذا يُسمّى، وهو فعلاً من أكبر مساجد المدينة، ويقع عند نهاية النَّاصِية المُؤَدِية إلى شارع البحر. انشرح صدره، قد يكون الأذان أو صوت المُؤَذِّن الشجيّ أو كليهما، الصوت الملائكي الذي يترنَّم في سماء أضواء المدينة، وعلى مسامعها، أعرفه، كأنه الشيخ مُحفِّظ القرآن في قريته، إحدى القرى على أطراف المدينة.
ولمُحفِّظه قصة عجيبة، فعندما كان موسى في الثانية عشر من عمره، اختفى هذا الرجل فجأةً حوالي سنتين، وكلما سأل عنه، أخبره مقرّبون من الشيخ أنه مسافر للعمل في إحدى دول الخليج، وكان الخليج مشهوراً باحترام المشايخ وعلماء الدين وحسن ضيافتهم وعدم المساس بهم. هذا الشيخ النحيف كعود الذرة والأطول قليلاً من عيدان القمح، فيما مضى عرف الطريق ابتسامة وبهجة لا تفارق وجهه، حيث يتزاحم الأطفال حوله، ويتعلقون بأطراف جلبابه ليصافحوه، لكنه هذه المرة عاد شخصاً آخر لا يشبهه، منكس الرأس، يلتهم الطريق إلى المسجد أو إلى البيت، التهاماً كأنه مُطارَد.
ونظراً لهذا الكروان القابع في حنجرته، كان إمام المسجد يقدمه على نفسه في الصلوات الجهرية، إذ باحت آيات القرآن بما لم يستطع البوح به، ينفطر من البكاء والأنين كلما تلا آية كريمة عن الظلم والقهر، بكاء كان يرتعش له جسد موسى وأجساد المصلين جميعاً، بل أرجاء المسجد وأعمدته الصلبة، ليكون السؤال: ماذا حدث لهذا الشيخ الجليل، معشوق الأطفال ومُحفّظ الأجيال؟
لم يقتنع موسى بمسألة السفر هذه، خصوصاً أنّ كل من سافر إلى الخليج يبخته الجميع، تذكر هذا كله، وهو يخطو أولى خطواته نحو باب المسجد، فلما خلع عنه الحذاء ودخل المسجد، وجد الشيخ انتهى من الأذان، وتمكّن موسى من رؤيته، فأدرك أنّه ليس ثمة وريث صوتيّ للشيخ، فهو الشيخ نفسه وكروانه وصوته الشجيّ، أما الهيئة فقد شَابَ الشَعر وانحنى الظهر وكلله الله بالسكينة وراحة البال تراها في نظراته وخطاه.
نفخت فيه الصلاة ورؤية شيخه القديم روحاً جديدةً، غادر المسجد ومسعاه نحو شجرة يعرفها جيداً تطل مباشرةً على ماء البحر أو بالأحرى النيل، أراد أن يستنشق نسمات هوائه ويشعرها تغازل أنفه وقصبته الهوائية، جلس موسى وأسند ظهره ورأسه إلى جذع الشجرة، أغمض عينيه وخاطب الهواء بهمسات غير مسموعة: "هلم إليّ أيها الهواء، أحيي صدري من جديد فلم يحن بعد ميعاد موتي، آه يا نسمات الهواء، آه يا نسمات الهوى، آه يا ريم يا ظبية فؤادي، ألم يحن للليل الموحش أن ينجلي ويأتي ضوء النهار؟ ألم يحن لستار الظلمة والكآبة أن يُرفع فتصدح الكروانات بمِلء أفواهها بالأذان وتواشيح الفجر محرّرةً معها شقشقة العصافير وتسابيح الصباح؟
موسى باكثير
موسى باكثير
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير