ماذا فعلتَ بإنساننا وأٌسَرنا؟

ماذا فعلتَ بإنساننا وأٌسَرنا؟

22 سبتمبر 2017
+ الخط -
ربما يرى بعضهم زوايا عدة للآثار السلبية للانقلاب في مصر، لكن أحدا لم يلتفت للآثار الاجتماعية، خصوصا على علائق الأسرة المصرية. قد تحدث المصالحات، وربما تقفز إلى الواجهة بعض المواءمات، لكن أخطر ما حدث في المشهد الانقلابي مشهدان لا يمكن جبرهما بسهولة، لاعتبارات سيؤتى عليها عند محاولة تفسير بعض ما يحدث. الأول مشهد الدم الذي أفسد علاقات كثيرة، وطرح جروحا غائرة، لا يمكن أن تلتئم، ولا يمكنها أن تندمل، ذلك أن بعض المشاهد التي يحيكها بعضهم من فرح أو نوع من التشفّي حدث من بعض هؤلاء الذين فرحوا بفضّ الاعتصام في ميدان رابعة العدوية في أغسطس/ آب 2013، وما هو بالفض؛ إنما مجزرة متكاملة الأركان. يحكي بعضهم عن جيرانٍ فرحوا في هذا الفض، مهما كانت نتائجه من قتل وحرق وخنق ومن اعتقال ومطاردة، بل أطلق بعضهم أغنيات أشاعت نوعا من الاستفزاز والتشفي، بدا المجتمع في حالة غريبة. فرح بعض الناس ورقصوا على الدماء، قلنا مرارا وتكرارا عن هؤلاء إنهم تحت خط الإنسانية، لا يلزموننا، ولن نتوقف كثيرا عندهم، سواء من حرّض أو فرح أو دعم، إنها قصة الدماء التي لا يمكن أن تطوى فصولها بسهولة، خصوصا حينما تكون الأمور قد تمت بأشنع الأساليب، غدرا وترويعا وتفزيعا.
أكدت مقالة سابقة أن من هم دون خط الإنسانية لا يمكن بأي حال مسامحتهم، وقد أدت سلوكياتهم وأقوالهم إلى تمزيق أواصل شبكة العلاقات الاجتماعية، وكنت قد أكدت أن خيبتنا في نخبتنا، وأن المحنة الكبرى هي في ادّعاء نخبةٍ أرادت، في صراعها السياسي وتنافسها الحزبي، وكراهيتها فصيلا أن تجهز على كيان وطن وعلائقه الاجتماعية وشبكته الإنسانية وجماعته الوطنية. وكتبت أن تلك النخبة أخطر ما ارتكبته أنها أنزلت تلك الخلافات السياسية إلى عمق مفاصل المجتمع، فأدى ذلك للأسف الشديد إلى تمزق أواصر، وإلى تقطع وشائج، وإلى انفضاض علاقات. استحقت هذه النخبة وصف الانحطاط، بعد أن كنا نقول عنها إنها نخبٌ عفا عليها الزمان، وخرجت تلك الكلمة التي أراها كاشفة فارقة التي توصف واقع النخبة التي تحولت من "نخبة محنطة" إلى "نخبة منحطة".
نتج عن هذا الأمر المشهد الثاني، والعلاقات المقصودة هنا علاقات أسرية. شُقت أسر بأكملها ما بين مؤيد ومعارض، بل أخرجت أقبح السلوكيات التي أدّت إلى ليس فقط مجرد برود في العلاقات الاجتماعية، ولكن حدث من السباب والهجاء ما أثر على تلك العلاقات سلبا، بما 
أصابها من الضرر الكبير، بل حدث أن انفصل أزواج عن زوجاتهم، وانقطعت صلات رحم بين أخ وأخيه، وبين رجل وأسرته، وبين ابن وأبيه، وبين أم أبلغت عن ابنها، وأخت أبلغت عن أخيها. وفرح كهنة الانقلاب، قالوا وبأعلى صوت إن هذا هو عنوان الوطنية، وإن وطنية هؤلاء الناس جعلتهم ينحازون إلى الدولة، ويتحيزون إلى منظومة السلطة، أيا كانت الأسباب أو التفسيرات أو التأويلات، فهذا لا يهم. ما يهمنا حقيقة هو الشرخ الكبير الذي وقع داخل أسر وعائلات مصرية، فقسمها أنصافا وأثلاثا وأرباعا وأخماسا، وبدا الأمر شديد الخطورة، فإن جُبرت المسائل السياسية أو الاقتصادية، فكيف يمكن جبر ذلك، وهو أمر خطير وقع في أسر مجتمعاتنا.
كان ذلك المقال عقب منشور كتبه أخ لأخيه من عائلة شوبير. محمد وأحمد أخوان، كان أحدهما لاعب كرة ومعلقا كبيرا وأتته الشهرة من كل مكان، مثل شهرة أهل الفن والكرة والإعلام والصحافة. وغالبا ما يكون هؤلاء في جحر السلطة، إلا من رحم ربك، يتغنى بها ولا ينظر إلى مفاسدها، أو استبدادها، يتحرك في كلامه مساندا وداعما سلطة الاستبداد مهما فعلت. أما الأخ الآخر فهو مغترب يدير مدرسة تعليمية، وهو تربوي من طراز فريد، اغترب في الولايات المتحدة الأميركية، واتخذ موقفا أملاه عليه ضميره الوطني وأخلاقه التي تجمع بين مهنته التربوية وقيمه الإنسانية، إنه يقف في الصف ضد الانقلاب ومنظومته ضد كل ما اقترفه الانقلاب في حق الإنسان والإنسانية، ووقف في مواجهة كل عدوان وطغيان من الطاغية الفاشي، منتقدا ومحتجا ومتظاهرا، وعمل مع مجموعاتٍ عارضت النظام، ليؤكد أنه ضد الانقلاب، وضد كل سياساته وأفعاله.
حدث أمر لم يكن متوقعا أنه خطير. كان الأخ المغترب في الولايات المتحدة يصر دائما، في كل كلماته، على أن أخاه من دمه وابن امه وأبيه، هو دائما في حالة من الغضب منه، لكنه كم كان يتمنى أن يكون في صف الحق والحقيقة، ويتألم حين يهجوه الناس ويسبونه. كتب ذلك مراتٍ. ويخرج الآخر في وسائل الإعلام، مكرّرا أنه يستغرب سلوك أخيه، وأنه على رأس من يستنكر مواقفه وأفعاله. كتب المغترب منشوره، وقد ترامت إليه الأخبار أن أخاه الواقف في صف الانقلاب سيأتي مع عبد الفتاح السيسي في زيارته للولايات المتحدة، وبحكم انخراطه في جمعياتٍ وكيانات مناهضة للانقلاب، يقوم بعمل ريادي في مواجهة هذه الزيارات الموسمية لهذا المستبد الفاشي في كل عام، حينما يأتي مع جوقته التي تسانده في كل مرة من فنانين وإعلاميين. وها هو هذه المرة يأتي بهذا النجم الكروي معه، وجد الأخ المغترب أن أخاه القادم الذي ود كثيرا أن يراه، وأن يزوره في الولايات المتحدة الأميركية بعد سنين، وانقطاعه سنواتٍ عن الدخول إلى مصر أن يكون أخوه في زيارته، لكنه هذه المرة أتى في الجوقة وفي زفة السيسي.
كتب المغترب منشوره، يتحدث فيه عن إحساسه بالحيرة والتمزق من هذا الأمر الذي اصطنعه 
السيسي. هو لم يفرق فحسب بين المرء وأهله، ولا بين الزوج وزوجته، بل إنه قطع الرحم نسبا وأخوة دماء. هذا الأمر هو ما دفعني إلى الكتابة، لأؤكد على أمر خطير حدث في المشهد الاجتماعي والأسري، قلت إنه لم يلتئم، مثل شأن الدماء، فعلى الرغم من اتحاد الدم من حيث الأخوة، إلا أنه افترق في الموقف من دماءٍ سالت. ومن هنا، لا نقول إن شبكة العلاقات الاجتماعية تضرّرت، بل تمزقت. لا يحدث هذا الأمر فقط في مساحات الانقلاب، بل كان دائما في الساحات الفرقانية التي تفرق بين حق وباطل، وبين دم ودم، فهذا سيدنا إبراهيم يرجو غفرانا لأبيه، وهذا سيدنا نوح يبذل حرصا لابنه، لكن الأمر كان واضحا أن من هم دون خط الإنسانية يفرّقون كل الروابط، ويمزقون كل رحم.
أشير في النهاية إلى ضرورة تبصر ذوي الشأن، والذين يحملون همّ التغيير، ماذا أنتم فاعلون في أمرٍ كهذا، هل ستجبرون كسور المجتمع وتمزّق شبكة علاقاته؟ وما هي خطتهم في ذلك؟. نعم إن الأمور التي تتعلق بكامل الوطن وبحق الإنسانية وبحق المجتمع والاجتماع هي التي يجب أن لا نهملها ونتفكّر فيها، ونفكر في استراتيجية جبرها، ذلك أن هذا الفاشي الفاسد، الفاجر الفاشل خرّب كل شيء، حتى المجتمعات والأسر، حتى علاقات الجيرة والرحم والصدق والصداقة والرفقة. صار كل هؤلاء فرقاء متفرقين، ما بال هذا الشيطان "السيسي" دخل ليفرّق بين كل هؤلاء، وأقول للمنقلب ماذا فعلت بمجتمعاتنا؟ ماذا فعلت بأسرنا؟ وفي النهاية، ماذا فعلت في مواطننا وإنساننا؟
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".