مسلمون يحاربون الإسلام

مسلمون يحاربون الإسلام

21 سبتمبر 2017
+ الخط -
(1)
لسنواتٍ خلت، كان الإسلام العدو رقم واحد على أجندة "الغرب" لأسباب تاريخية وجيوسياسية، فالشرق والغرب في تجاذب حضاري، كقطبي مواجهةٍ منذ قرون، وتحديداً منذ تمكّن "الحفاة العراة" من "بدو" الجزيرة العربية من تفكيك أكبر إمبراطوريتين "غربيتين"، تمثلان حضارة "الآخر" في زمن قياسي، أذهل علماء التاريخ قديماً وحديثاً. ومنذ ذلك الحين، بدأت المواجهة، وظل الغرب متحفّزاً لتسديد ضربة الانتقام لمن "أهانه"، فيما كانت الحضارة الإسلامية تفرض على الكرة الأرضية برمتها "نظامها العالمي" نحو أربعة عشر قرناً، وجاءت الفرصة السانحة منذ ما يقارب المائة عام أو يزيد قليلاً، حينما تمكّن الغرب من وضع حدٍّ للنظام الإسلامي العالمي، فأنهى "خلافة" آل عثمان، بتواطؤ وحماس شديدين من بعض شيوخ الجزيرة العربية، على أمل أن يتمتعوا بجزءٍ من تركة "الرجل المريض" الذي ساهموا في قتله، وبقية القصة معروفة لكل من قرأ ولو صفحة في تاريخ نشوء "الدولة القُطرية" العربية، المجزّأة، وكيفية رسم الحدود فيما بينها بقلم رصاص بين يدي البريطاني مارك سايكس وجورج بيكو.
(2)
الجديد في الموضوع أن ثمة أنظمة ودولاً قامت "شرعيتها" أساساً على الإسلام، ونظرية "ولي الأمر" في العالم السنّي (تقابلها نظرية الولي الفقيه في العالم الشيعي!) انضمت علانية إلى حلف الغرب، في مناهضته الإسلام، ولكن بمسوّغ محاربة "التطرّف" و"الإرهاب"، وبلغ الأمر حداً من التماهي مع "العدو" أن رأينا رموزاً من أعلام الخطاب الديني والدنيوي "يقعّدون" عملية التماهي، ويبرّرونها دينياً ودنيوياً، ويزيّنون للحاكم وللعامة "شرعية" محاربة الذات المسلمة، والارتماء في حضن أكثر أعدائهم شراسةً وعنصريةً وإرهاباً، وهو كيان العدو الصهيوني. وقد سبقت هذا عملية ممنهجة وطويلة، تمثلت في أحابيل تصنيف الإسلام، وتقسيمه إلى إسلامٍ معتدل ومتطرّف وسياسي ودعوي وخيري، وغيرها من تقسيماتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يبق في "مزاد" التقسيمات إلا أن يقال إن لدينا إسلاماً بنكهة الفراولة أو التوت البري، أو إسلاماً بالحليب، أو إسلاماً دايت، أو كامل الدسم.
وأحسب أن آخر تقسيمين هما المعنيان بالموضوع كله، هذا المناخ المواتي للآخر الغربي هيأ 
الفرصة لزعيمٍ غربي للتجرؤ على أن يقول في قلب الجزيرة العربية التي احتضنت الإسلام، حيث أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عزمه على "استئصال" ما سمّاه الإسلام الراديكالي، كأن هذا الـ "إسلام" مجرد زائدة دودية قابلة للإزالة والاستئصال. ولم أر أكثر صفاقة وسطحية من كلامٍ كهذا. صحيح أن المسلمين يعيشون اليوم في درك مريع من الخذلان والضعف والاستقواء، لكن الإسلام كدين في قمة زهوه وانتشاره وألقه، ولعل هذا هو سبب الغيظ الذي تتميز به قلوبهم عليه وعلى أصحابه.
الإسلام هو الإسلام، واحد غير قابل للتصنيف والتقسيم و"التنْكيه"، فاسمه ومحتواه ونكهته وكنهه واحد. وثمّة حيلة خبيثة تكمن في عملية التصنيف ابتداء، وهي حيلة معاصرة، ابتدعتها مختبرات صناعة الاصطلاحات، التابعة لأجهزة الاستخبارات العالمية، بغرض ضرب المفهوم الواحد، وتمييع الدين، وأنّى لهم هذا، فهو دين محفوظ بضمانة رب العالمين، ولم يزل ولله الحمد حياً نابضاً في قلوب الملايين، ولم يزل أيضاً الشغل الشاغل للأجهزة إياها، في محاولةٍ يائسةٍ لوقف تمدّده وانتشاره، أو "تجميده" في قلوب المؤمنين به.
أما حكاية "الإسلام الراديكالي" فهي مهترئة، وحيلة مبطنة لاستهداف الإسلام من حيث هو إسلام محض، والاستهداف في معناه المبطن، يستهدف المسلمين بالطبع. وغير بعيد عن لعبة المصطلحات تلك، تكمن لعبة أخرى تتحدّث عن إسلام جهادي وإسلام غير جهادي (!). وفي الحقيقة لا يوجد إسلام جهادي وإسلام غير جهادي.
الفخ نفسه وقع فيه عمداً أو جهلاً مثقفون وكتاب عرب، حيث ألقوا برداء داعش و"الراديكالية" على أي نشاط إسلامي، وبرع بعضهم في دعوشة كل الإسلام، باعتباره ديناً متطرّفاً، ويحتاج إصلاحاً جذرياً، ومراجعة كل ما ورد في القرآن الكريم والسنة الشريفة.
التحالف الشرّير بين الصهاينة والأميركان، وحلفائهم في "العالم السني!" ضد الإسلام كمبادئ وبشر، لا يؤثر على قوة التيار الوسطي الذي يهيمن على قلوب عامة المسلمين، بل يزيدهم 
تمسكّاً بدينهم، بل يزيد هذا التحالف تطرّف المتطرّفين، ويعزّز لديهم الاعتقاد السائد أن المستهدف ليس التطرّف و"الإرهاب"، بل المسلم من حيث هو مسلم، لأنهم يريدون إسلاماً بلا إسلام، إسلاماً لا يعدو أن يكون طلاءً خارجياً: من لحية وأذان وصلاة. أما ما يتعلق بكرامة المسلمين واستقلالهم وكبريائهم، وتحرير اقتصادهم وأرضهم، ومقدساتهم، وثرواتهم من أي استغلال أو هيمنة، أو تدنيس، فهو سلوك إرهابي يجب التعامل معه بسلاح الإخراج من دائرة الشرعية والملاحقة، وهذه السياسة وصفة مكثفة ليقظة المسلمين النائمين، إن لم تكن صناعة مزيد من "الدواعش" و"الراديكاليين" إن جاز التعبير.
في فهمنا الإسلامي البسيط، لا يوجد إسلام جهادي وإسلام غير جهادي، الجهاد جزء من عقيدتنا الإسلامية. ولهذا نفهم أن أي حلف بين إسرائيل وأي دولة عربية أو إسلامية لشن حرب على "الإسلام الجهادي!" هو حرب على الإسلام من حيث المبدأ.
(3)
قد لا يدرك كل من انخرط من العرب والمسلمين، أنظمة وأفراداً وجماعات، في حلف محاربة الإسلام باعتباره العدو رقم واحد، أن انخراطهم هذا هو أول ضربة فأس في أنظمتهم وحياتهم، و"شرعيتهم" التي قامت على الإسلام. وربما لن يمر وقت طويل حين تصحو الشعوب من كذبة حماية هؤلاء الإسلام. وحينها لا يمكن لأحد أن يتخيل شكل انقضاضها على من يريد تجريدها من هويتها وكرامتها، بعد أن تتأكد يقيناً أنه لا أطعمها من جوع ولا آمنها من خوف.