بائعو شطائر الوهم

بائعو شطائر الوهم

21 سبتمبر 2017

حاتم الجمصي.. محلل سياسي؟ (يوتيوب)

+ الخط -
أصبحت القصة معروفة لمن تابع الأخبار في الأسبوع المنصرم. حاتم الجمصي، مهاجر مصري منذ سنوات عديدة إلى الولايات المتحدة يملك محلا صغيرا، يعمل فيه بصنع الشطائر اللذيذة وبيعها. وفي أوقات فراغه، يتحول محللا سياسيا، يبدي آراءه عبر تطبيق سكايب على معظم الشاشات المصرية في قضايا الساحة المطروحة، بدءا بأزمات مصر وعلاقاتها الدولية مع الولايات المتحدة، مرورا بالأزمة الخليجية، وصولا إلى مشكلات كوريا الشمالية بعد تفجيرها النووي أخيرا.
لم يكن العاملون في القنوات المصرية التي دأبت على استضافة الجمصي على الهواء مباشرة كمحلل سياسي مرموق، ولا مشاهدوها، يعرفون مهنته الحقيقية، خصوصا أنه، كما يبدو، حرص على عدم التصريح بها. ربما لعدم أهمية ذلك، ثم إنه لم يسعى إلى هذه القنوات، بقدر ما سعت هي إليه، بعد نجاحه في إحدى مقالاته التي كان يكتبها هاويا في التنبؤ بفوز دونالد ترامب على منافسته في سباق الرئاسة الأميركية، هيلاري كلينتون، في وقتٍ كان الجميع تقريبا شبه متأكد من أن النتيجة ستكون لصالحها! وهكذا، وجد الشاب المجتهد نفسه محط أنظار معظم معدّي النشرات والبرامج الإخبارية والسياسية في القنوات المصرية، الحكومية والخاصة، ما عزّز لديه ضرورة الاهتمام بعمله الاستراتيجي الجديد، من دون أن يعلن وظيفته الحقيقية.
اجتهد الجمصي في إعداد الأستوديو الخاص به، فألصق خريطة ملونة كبيرة للعالم على جدار غرفة غسل الصحون الصغيرة الملحقة بمحل إعداد الشطائر وبيعها، ووضع مقعده أمامها، بحيث تظهر هذه الخريطة وراء ظهره، عندما يبدأ الحديث عن أهم قضايا العالم، ما يضفي على المشهد جديةً تليق بنوعية النقاش ومستواه! وما أن تنتهي الدقائق الممنوحة له في النشرة، حتى يخلع ربطة عنقه ويرتدي قفازيه، ليبدأ إعداد شطائره اللذيذه وبيعها لزبائن مطعمه الصغير في منطقة كوينز في نيويورك.
قد تبدو الحكاية مثالية لقصة صحافية مشوقة، فهي تشتمل على كل العناصر اللازمة لجذب المتلقي؛ تشويق وإثارة وطرافة وصعود إنساني باهر. وفي النهاية مفاجأة تعتمد على اكتشاف المفارقة غير المتوقعة. لكن هذا كله لم يكن يشفع للرجل أمام الجمهور العربي الذي اكتشف التفاصيل، بعد أن نشرتها صحيفة أميركية.
تداول كثيرون القصة بعد اكتشافها باستخفافٍ كثير بالرجل الذي اعتبروه مخادعا، فقد اعتبره بعضهم دليلا على رداءة الإعلام العربي الذي وصل به الحال إلى أن يستعين بصانع شطائر، أو "فطاطري" كما يطلق عليه باللهجة المصرية، وتقديمه خبيرا في الشؤون الدولية. والإعلام العربي رديء فعلا، وبلغ من تقهقره مبلغا لا يحتاج إلى أدلة تؤكده، إلا إن ظهور حاتم الجمصي في إطاره ليس من بين تلك الأدلة، كما أرى.
منذ انتشار الحكاية، وأنا أحاول أن أعرف "الجريمة" التي ارتكبها هذا الرجل، ليتعرّض لكل أنواع السخرية منه، وكأن من يظهر على الشاشات العربية من محللين سياسيين أقدر منه في ذلك المجال مثلا. ما الذي يمنع أن يكون بائع الشطائر في بلاد منفتحة ومفتوحة على ثقافاتٍ متعددةٍ، كالولايات المتحدة، محللا سياسيا، ما دام قادرا على ذلك، إلى الدرجة التي أقنع فيها كثيرين بما يقوله من آراء؟
في خضم الأزمة الخليجية، مثالا، تابعنا أشكالا وألوانا من المحللين من ذوي الدرجات العلمية المرموقة، والتعريفات الشهيرة، وقد أتحفونا بآراء أقلّ ما يقال عنها إنها ساذجة! وقد توقفت قبل شروعي بكتابة هذا المقال عند تغريداتٍ متسلسلةٍ في حساب أحد أشهر هؤلاء المحللين، فوجدت العجب العجاب في منطقه التحليلي، ومعلوماته المضحكة التي لم يخجل من كتابتها في إطار تعزيز سياسة بلاده وحسب. وإذا علمنا أن حاتم الجمصي حاصل على إجازة في الآداب من جامعة مصرية، وقد بدأ استكمال دراسته العليا في جامعة في نيويورك معروفة، بعد هجرته إلى هناك، اكتشفنا أنه لا أحد أفضل من آخر في مهنة التحليل السياسي على شاشات التلفزات العربية إلا في ما ندر؛ فمعظمهم مجرد بائعي شطائر محشوّة بالوهم.
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.