"ما في سجون تساع كل الناس"

"ما في سجون تساع كل الناس"

18 سبتمبر 2017
+ الخط -
لا تُبنى الدول بـ "التجانس"، على حد تعبير دكتور تطهير "الفيروسات" من الجسد السوري، بل بالتعدّد. لا وجود لدولة "متجانسة" على أي بقعةٍ في الأرض. هذه أفكار "الرايخ الثالث" العنصرية التي صنعت عرقاً خيالياً، وتاريخاً مزيفاً لألمانيا. وقلبت التواريخ القديمة، مثل علاقة الإغريق بالأمم "الشرقية"، رأساً على عقب، ومن مفارقات الأمور وغرائبها أن صحفاً إسرائيلية نبشت في التاريخ العائلي لسيد هذا "التجانس"، أو "النقاء" الفهرهر هلتر، لتكشف بعض "أصوله" اليهودية، وما عنفه ضد اليهود، برأي تلك التنبيشات الاسرائيلية، إلا لإخفاء هذه الدماء غير الجرمانية. إنه عنف ضد الذات، وجلدها و"تنقيتها" من "الشوائب". لم تكن ألمانيا "متجانسة"، ولم تصطفّ وراء الفهرهر على قلب رجل واحد، كما ترينا التسجيلات المصوّرة للحشود الهائجة التي ترفع يداً واحدة إلى الأمام.
علينا أن نتذكّر التصفيات التي شنتها النازية ضد كل "الأقليات"، ليس اليهود وحدهم، وعلينا أن نتذكّر أن أهم الكتاب والفنانين الألمان ناهضوا النازية، ودفعوا أثماناً باهظة قتلا، حبساً، نفياً. لكنهم لم ينخرطوا في طوابير الولاء والأزياء الموحدة التي فرضتها النازية على المواطنين الألمان. هذا درسٌ في التاريخ. سقط هتلر، وبقيت الأصوات التي ناهضته حيّة تعطينا مثالاً على ضرورة دحض الزيف العرقي، الزيف الإيديولوجي، والأهم زيف الإجماع، بل خطورته. دعونا نتذكّر ما قاله شاعر ألمانيا ومسرحيّها الكبير، بيرتولد بريخت، في "الدهان" هتلر:
ســوى حـرفـة الدهــان/ لم يتعـلم هتلــر/ ولمـّا تـركنــاه يفعــل مـا يــريد/ دنّــس كـل شــيء/ بــلاد الـرايـن كُـلهـا دنّـسهـا. (ترجمة أندلس الشيخ، ضفة ثالثة).
لا تُدهن الدول بدهان. لأنه قشرة. لأنه سيزول. ستتكفل به الأمطار والرياح وأيدي الأطفال التي تحوله، ببراءتها العبقرية، إلى مسخرةٍ وكاريكاتير. بماذا يذكّرنا ذلك؟ بكل الطغاة العرب الذين يعتبرون التعدّد والاختلاف و"الشذوذ" عن "إجماع الأمة" هرطقة، بل خيانة وطنية، وبوسعه أن يكون مرضاً يجدر "تطبيبه". كان الطغاة العرب يقبلون "صمت" معارضيهم، بل يدفعون ذوي الرأي إلى الصمت دفعاً. كان الهدف هو الصمت، وليس الكلام. كانوا يقبلون اعتزالهم الحياة العامة، والتزام بيوتهم شرط كفّ "شرور" أقلامهم، أو أفواههم. لم يعد هذا مقبولاً. الصمت الذي يُعطى حتى للمجرمين، حقا في أثناء الاستجواب، لا يُعطى للمختلف في الرأي، لمن لا يريد الانخراط في الجوقة، بصرف النظر عن "القضية" التي يُستنفر فيها المجتمع، كما لو كان صوتاً واحداً. التجانس هو الوجه الآخر للإجماع. هو نفسه الصوت الواحد الذي ينبغي أن تصدح به "الأمة" في مارشاتٍ عسكرية، ولكن ليس على جبهة العدو الذي كنا نعرفه، بل على جبهة الداخل. العدو لم يعد في الخارج. ليس هناك وراء النهر، والأسلاك الكهربائية وأبراج المراقبة، بل بيننا. وربما صار العدو "القديم" أقرب إلينا من أنفسنا، نستعين به، من وراء ستار، في حل قضايانا الداخلية. ولا أستغرب أن يكون أكثر فعالية على هذا الصعيد مما تكشفه الصحف وتتناقله وسائل الإعلام.
فلنتذكّر ذلك الشعار القمعي: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة! (وليتها معركة تكللت بربع انتصار). الآن، صار العكس: لا صمت مسموحاً به في وقت "المعركة"! لأن الصمت سيبدو نوعاً من المقاومة، أو على الاقل نوعاً من الاعتراض. وهذا لا يقلّ جرماً عن الخيانة الوطنية. من يظن أن الدول تُبنى بهذا النوع من "الإجماع" لن يحظى بأكثر من جوقة من الأصوات الكاذبة، أو التي تتكاذب لتدرأ عنها الشبهات. ولكن، كما غنّت فيروز: ما في سجون تساع كل الناس. .. مهما اتسعت السجون، وضاقت الجدران، لن تستطيع أن تضم كل الذين يتكلمون، ناهيك عن الذين يصمتون!
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن