بين هلموت كول وصدّام

بين هلموت كول وصدّام

17 سبتمبر 2017
+ الخط -
قرّرت الدولة الألمانية؛ أحزابُها ورجالاتُها، أن يسمّى شارع باسم المستشار الألماني الأسبق؛ هلموت كول، المتوّفى حديثاً، تخليداً لذكرى مهندس دمج الألمانيتين، ووفاء لسيرته السياسية، وأياديه البيضاء في توحيد ومن ثم إدارة الدولة الألمانية، قوية مرفهة، حرّة وديمقراطية.
شارع هلموت كول، يستحضر إلى الأذهان مدينة صدام حسين التي تخلّت بعد إسقاط الديكتاتور العراقي، عن التلّقب باسمه، فأُسندت التسمية قسرا وربما تشفيا، من الحاكم المخلوع إلى المرجع الشيعي، محمد محمد صادق الصدر، المغتال على يد جلاوزة نظام صدام.
الفارق بين هلموت كول شارعا وصدام مدينة ليس فقط اختلافا بين مكانيين، في الاستواء والتضاريس والجغرافيا ودرجة الحرارة والطبيعة الخضراء أو الجرداء، بل في ذلك الملمح المفرّق بين عقليتي الحاكمين، وبين ذينك الركام الثقافي الاجتماعي السياسي الكبير، المترّسب عن كل منهم، فهلموت كول تحوّل إلى مسمّى لشارع، بفعل تسييره الشفيف عجلة الديمقراطية العتيقة في بلاده، بإيثار وغيرية ونزوع لا متناه إلى بذل أقصى ما وُهِبَ ، من جدارة وكفاءة ومعرفة وفاعلية في سبيل إحقاق المصالح العليا للدولة والمجتمع.
واللافت في هذا المعرض أنّ خلفاء كول في إدارة الدولة الألمانية هم الذين لقّبوا الشارع بعد مماته باسمه، ولو كان المستشار المُكرَّم حيّا، لعله رفض أو ذرف دموعا منبعها الفخر والاعتزاز، أو لربّما كان اقترح أن يسمّى الشارع باسم سواه، ممن نفعوا الدولة والمجتمع والسياسة والثقافة والميادين الأخرى المختلفة أكثر منه.
أمّا صدام حسين الذي قهر الدولة العراقية، مذ اغتصابه السلطات، بقبضة من حديد وأخرى من نار، وإلجامه الشعب، وإبطاله المؤسسات والمرافق العامة والخاصة والمشتركة، وتسخيره الوطن والمجتمع والحياة، ليتقدم شخصه كّل المعاني والقيم والفلسفات السامية، بجنون من عظمة، فخال نفسه إلها بمرتبة فرعون ونمرود أو أدهى، إذ رسم بخلاف هلموت كول بنفسه، أن تنسب تلك المدينة الحيرى، الملتصقة ببغداد، خلال حياته إليه، ولم يقف عند هذا وحسب، بل استنبت الحاكم المؤله تماثيل له، في كل قرية وقصبة وناحية وقضاء ومدينة في العراق الواسع العريض، ناشدا بذلك الخلودَ كأنه "ربّ" مؤبد. لكن الرياح هبّت بما لا تشتهي سفن السفاح، فالمدينة حُيّدت عند بتره، ثم أثقلت كرها بمسمى الصدر، ذي المدلول المذهبي الشيعي الذي لن يستقر كما صدام.
شتان، إذن، بين المكان والمكان، الإنسان والإنسان، وهيهات أن يماثل شارع هلموت كول مدينة صدام حسين، وحتى "الصدر"، فمواضع الافتراق بينهما حضارية وإنسانية وأخلاقية، وشارع هلموت كول أبقى، لكونه يؤرخ لـ "مدنية فاضلة"، من "مدينة صدام/ الصدر" التى لم ولا تدلل إلا على "عقلية غاصبة"؛ بمعنى أنّ هلموت كول خُلِّد في ذاكرة شعبه رمزا، ودخل التاريخ من أبوابه الواسعة، بخلاف "صدام" الذي شوّه ميراث سومر وبابل وآشور وميديا، بجيروت وقسوة ، ولم يوارَ إلا كما يُقتلَع الورم غير الحميد.
هلموت كول لمَّ شمل الفرقة الألمانية في كيان موّحد، أما المدينة التي حُمِّلتْ باسم صدام، انسلخت بمجرّد زوال الطاغية، الذي تجبّر فأوقع الحضارة الرافديّة، إبّان وجوده وبعد سقوطه، في أزمة هوية وفوضى انتماء وتفتيت أرض.
avata
avata
إبراهيم سمو (سورية)
إبراهيم سمو (سورية)