مقطع من مشهد التعليم في المغرب

مقطع من مشهد التعليم في المغرب

17 سبتمبر 2017

(لؤي كيالي)

+ الخط -
يعد موضوع إصلاح منظومة التربية والتكوين (التأهيل) في المغرب، وعلى امتداد عقود، من الإشكاليات الكبيرة والمعقدة التي لم يعثر لها على حلول ناجعة، ولا على تشخيص دقيق لمختلف مظاهر التعثر والجمود وعدم الفعالية. وتعددت خطط الإصلاح ومشاريعه، وتناسلت المناظرات، واستحدثت اللجان التي عهد إليها باقتراح وصفات من شأنها تطويق المشكلات والاختلالات التي بات يعاني منها قطاع حيوي واستراتيجي في أي مشروع ديمقراطي أو تنموي. ويمكن الإشارة إلى ميثاق التربية والتكوين في سنة 1999، وقد كلفت بالإشراف على صياغته لجنة ملكية، تشكلت من هيئات وفعاليات مختلفة، تربوية ومهنية سياسية ونقابية. واعتبر الميثاق، وقتئذ، خطوة ثورية وإجراء متقدما، وضع، ضمن أولوياته الأساسية، مواكبة التحولات العميقة التي طاولت المجتمع المغربي على كل المستويات، والتفاعل الإيجابي مع متغيرات النسيج الاقتصادي الوطني والعالمي وتطوراته، خصوصا وأن كل الفرقاء المعنيين بأزمة التعليم في المغرب يجمعون على تردّي المدرسة العمومية، وتحولها إلى مجرد آلة لتفريخ العاطلين وغير المؤهلين. غير أن الرهانات التي عقدت على الميثاق لم تتحقق، وبدت عملية الإصلاح وفق الشروط التي اكتنفتها، والسياقات التي أطّرتها، وكأنها قرار عبثي كان مآله الفشل الحتمي في تحقيق انتقال ملموس في قطاعٍ اعتبره المغاربة رافعةً أساسية لعيشهم وكرامتهم ورقيّهم الاجتماعي.
وهناك المخطط الاستعجالي الذي جاء بديلا للميثاق الوطني، بعدما وصل هذا إلى باب مسدود، ولم يفلح المخطط في تقديم حلول عملية لتجاوز المشكلات المزمنة تعليميا وتربويا. وهناك الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين، 2015 – 2030، التي تبنّاها المجلس الأعلى للتربية والتعليم والبحث العلمي، وهو مؤسسة دستورية، تضم كل ألوان الطيف السياسي والنقابي إلى جانب أهل اختصاص وخبراء. لكن على الرغم من كل المشاريع المعلنة
وتعدد المتدخلين، ظلت مشكلات قطاع التعليم تراوح مكانها، لأسباب تاريخية وبنيوية، وأخرى مرتبطة بالاختيارات التربوية واللغوية التي راهنت عليها الدولة المغربية والمناهج والمقرّرات التي اعتمدتها في مختلف مستويات التعليم.
وما تعشيه فئات عريضة من المغاربة اليوم من هواجس وقلق وخوف تجاه مستقبل أبنائها شبيه بنار فتنة جماعية تلتهم ألسنتها عددا مهما من الأسر، فتنة من نوع خاص، لا هي حرب قائمة على الخطط العسكرية والإستراتجية، ولا هي منازلة حامية تستعر وتشتعل، بسبب حجم الأسلحة المستعملة فيها ونوعيتها. إنها مع ذلك تشبه الحرب في كثير من تفاصيلها ومواصفاتها، حرب فرضت على الذين فقدوا الثقة في المدرسة العمومية، والذين ركبوا موجة البحث عن الجودة والتكوين الجيد والتأطير الحديث في مدارس خاصة.
هناك أسر تنتمي إلى الطبقة الوسطى بالكاد تغطي مصاريف الحياة اليومية، وتتصارع من أجل البقاء بدون متاعب مادية ومآس اجتماعية، لكنها وجدت نفسها تحت تأثير جاذبية المدرسة الخاصة وسلطتها، وفضلت أن تتقشف، وتقلص النفقات اليومية، بغية تغطية تكاليف التعليم.
في الرباط والدار البيضاء وغيرهما من المدن المغربية الكبرى، هناك مدارس خاصة لا تؤمن إلا بلغة المال، وصارت شركاتٍ ربحية بامتياز. وعلى الرغم من هذا السلوك الذي لا يخلو من استفزاز، تتحمل الأسر على مضض هذه الحرب المعلنة ضدها، إشباعا لرغبات وغاياتٍ لا تفهم بالتحديد الدوافع خلفها، حرب مادية تقصف الجيوب، وحرب رمزية، لدى المتعلم خصوصا في المرحلة الابتدائية، تناقضا وصراعا وارتباكا في هويته، فهو في هذه المدارس أشبه بجندي في ثكنة لغوية، عليه أن ينضبط لقواعد المؤسسة وتقاليدها، فلا حديث ولا وثيقة إلا باللغة الفرنسية.
ما يؤزم العقل التربوي في المغرب ويرهق الرأي العام أن كثرة مشاريع إصلاح التربية والتعليم فاقت كل تصور، وأن اختبار جدوى المناهج والمقرّرات وجودتها، وتنظيم المناظرات، وتشكيل اللجان، وصياغة التقارير والتوصيات بشأن التعليم، تحول ذلك كله إلى ظاهرة مغربية. وأضحى البحث عن المسالك والمعابر والحوامل والركائز والجسور، سعيا إلى مدرسة عمومية ذات مصداقية وجودة تجربةً سيزيفية، تهدد وجود هذه المدرسة نفسها، علما أن الحركة الوطنية المغربية، والأحزاب التي خرجت من رحمها، اعتبرت، في مختلف نضالاتها وأدبياتها، أن المدرسة العمومية صمام أمان التماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية والتنمية في شتى أبعادها.
مصدر القلق المتزايد في الأوساط التربوية في المغرب ومختلف الأسر أن المدارس الخاصة
بدأت عملية اكتساح غير مسبوقة، لكي تحل محل المدرسة العمومية، حيث أصبح كل من تتوفر له الإمكانات يفكّر في المدرسة الخاصة، مهما كانت الكلفة والمكابدة. وهناك قطاع واسع ممن يعملون في المدرسة العمومية وقرّروا تسجيل بناتهم وأبنائهم في المدارس الخاصة، فهم أيضا، وبناء على صورة سلبية منتشرة في المجتمع عن المدرسة العمومية، لا يثقون فيها، ويعتبرون مناهجها وبرامجها منتجة للفشل والضحالة واللافعالية واللاتنافسية. ولذلك يفضلون التقشف والمعاناة والضغوط اليومية على أن يتوجه أبناؤهم إلى مدرسة عمومية، تنم عن التجهم والخصاص والإحباط وانسداد الآفاق، واحتباس فرص النجاح في الحياة العملية.
يعود انشغال الرأي العام المغربي بشكل لافت بالمسألة التربوية إلى خشيته من فشل المدرسة العمومية وانهيارها التام، العامل الذي سيؤدي بالمجتمع إلى فقدان فضاءات صناعة المواطنة وإنتاج المعرفة، لأنه بكل بساطة لا يمكن الادّعاء ببناء مشروع اجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي، بدون مدرسة عمومية مؤهلة ومواطنة وفعالة. ولا يمكن ترسّخ قيم الحداثة والعقلانية والديمقراطية وإقامة المؤسسات وضمان اشتغالها السليم، بدون مدرسة عمومية يثق فيها المجتمع وتغريه بجاذبيتها، وعرضها التربوي، وبمصداقيتها العلمية.