سيمور هيرش الذي يحيّرنا

سيمور هيرش الذي يحيّرنا

17 سبتمبر 2017

سيمور هيرش: ضرب النظام السوري خان شيخون بالكيماوي إشاعة

+ الخط -
نصحنا سيمور هيرش، نحن الإعلاميين الذين احتشدنا لسماعه، في جلسةٍ لمنتدى الإعلام العربي في دبي قبل ثماني سنوات، بالقراءة بغزارة، في موضوعاتٍ كثيرة، في التاريخ والتقارير السياسية مثلا، وبتوسّل الدّقة في عملنا أيضا. وهذه نصيحة ثمينة من "عميد الصحافة الاستقصائية" في العالم، كما يوصف، وتشتمل سيرته المهنيّة الطويلة على نيْله عدة جوائز عن تحقيقاتٍ ومقالات له، نشرها في منابر صحافية ذات مكانة وقيمة عاليتين، من أبرزها التي كشف فيها عن مذبحةٍ ارتكبتها قوة أميركية في قريةٍ في فيتنام في 1969. لذلك، يكون بديهيا أن يصدر واحدُنا في تتبّع ما يواصل هذا الصحافي المخضرم (80 عاما) نشره عن إعجابٍ مسبقٍ بمنجزه. وبالمقدار نفسه يكون بديهيا أيضا أن يُصاب من يتابعها بأرطالٍ من الخيبة، إذا لم يقع فيها على النباهة والحذاقة اللتين يتوقعهما، وإذا لم يُصادف الدّقة التي اتصفت بها، غالبا، كتاباتٌ قديمة لصاحبنا، وصار حضورُها شحيحا في جديده، منذ أزيد من عقدٍ ربما.
يتسلّم سيمور هيرش يوم 22 سبتمبر/ أيلول الجاري جائزة من مؤسسة سام آدمز للنزاهة، عن مقاله "خط ترامب الأحمر" في صحيفة دي فيلت الألمانية، انتهى فيه إلى أن بلدة خان شيخون السورية لم تتعرّض لهجوم كيماوي بغاز السارين من القوات النظامية في إبريل/ نيسان الماضي، وأن ما جرى أن هذه القوات أصابت عَرَضا، في استهدافها مبنىً كان مسلحون إرهابيون يجتمعون فيه، مخزون أسمدةٍ ومطهّرات، ما تسبّب بحدوث آثارٍ مشابهة للتي يُحدثها غاز السارين على ضحايا سقطوا في البلدة. وكتب هيرش في مقاله الذي احتفت به وكالة الأنباء السورية الحكومية (سانا)، في اليوم التالي لنشره في يونيو/ حزيران الماضي، إن مستشارين أميركيين أبلغوا الرئيس دونالد ترامب بذلك، إلا أنه أصرّ على التعامل مع "إشاعة" الضربة السورية النظامية بالكيماوي باعتبارها حقيقة، على الرغم من "الفبركة" فيها، فأمر باستهداف مطار الشعيرات. ويسند هيرش ما ذهب إليه بمصادر لم يسمّها، وأفاد بأنها "مقابلاتٌ" أجراها، إحداها مع مستشارٍ في الإدارة الأميركية (من هو؟). وليس تجهيل هذه المصادر مبعث الغرابة الوحيد في الذي طرحه الصحافي الأميركي الشهير، وإنما أيضا مخالفته نتائج تحقيقاتٍ لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية أكدت استخدام غاز السارين في خان شيخون. وكذا نتائج تحقيقات فريق تابع للأمم المتحدة، أُعلنت في الخامس من سبتمبر/ أيلول الجاري.
والملحوظ هنا أن سيمور هيرش شديد الوفاء لقناعته التي واظب على إشهارها، في كل ما كتب تقريبا منذ نحو خمسة عقود، وهي أولوية إدانة السياسة الأميركية وكل من يقيم في البيت الأبيض على أي شأن، فالغرض البادي في مقالته التي تكرّمها جائزةٌ للنزاهة (؟) ليست تبرئة قوات الأسد من جريمة خان شيخون، وإنما التشنيع على ترامب الذي "تلقّف الإشاعة بشأن مسؤولية الحكومة السورية"، ولم يكترث بما سمعه من مستشارين له عن "استخدامٍ مزعوم للسلاح الكيماوي". وهذا موصولٌ بانشغال هيرش بـ "كذب" الرئيس باراك أوباما في مسألة الهجوم بالكيماوي، في أغسطس/ آب 2013، في غوطة دمشق، فقد كتب أن المعارضة السورية المسلحة ارتكبته بغاز السارين الذي وفّرته تركيا لجبهة النصرة، فيما كان البيت الأبيض يوصل الأسلحة إلى الجهاديين في سورية من ليبيا (!). وأغلب الظن أن مجلة نيويوركر (وغيرها) امتنعت عن نشر هذا الكلام لأنه غير مؤكّد بمصادر موثوقة، فنشره صاحبه في "لندن ريفيو أوف بوكس"، وفيه أن رئيس الوزراء التركي في حينه، أردوغان، كان يحاول، في فعلته تلك دفع إدارة أوباما إلى شن عدوان على سورية.
يتآكل منسوب الإعجاب بسيمور هيرش، وبما يكتبه من هذا القبيل، ومنه أن إدارة أوباما كذبت في قولها إنها دفنت أسامة بن لادن في البحر بعد قتله، فلم يعد مقت السياسة الأميركية المعيار الذي يُحتكم إليه في تعيين مصداقية ما يكتبه هذا أو ذاك من مشاهير الصحافة ونجومها، ولا سعادة هيرش باستهداف جورج بوش بالحذاء في بغداد (كما أخبرنا في دبي)، وإنما مقادير الحقيقة والدقّة، وقبلهما وبعدهما، الحس الإنساني الواجب في أي جهد صحافي، وإعلامي، وثقافي، في أي مطرح، والظاهر أن هذا الحس صار شاحبا في الذي نقرأه لدى سيمور هيرش عن سورية.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.