عن السودان وإثم التطبيع العظيم

عن السودان وإثم التطبيع العظيم

16 سبتمبر 2017
+ الخط -
مع التدخل الأميركي في الصومال في نهاية عام 1992، زار السودان مسؤول أميركي رفيع، ليطلب من الحكومة عدم التحريض ضد ذلك التدخل. وخلال دعوة عشاء في منزل وزير الخارجية وقتها، علي أحمد سحلول، قال له الأخير في مزاحٍ يشبه الجد: وماذا يضيركم لو عارضكم السودان؟ فأنتم دولة عظمى تفعلون ما شئتم، ونحن دولة هامشية لا يستمع إليها أحد. عندها طلب المسؤول جهاز تسجيل، وأخرج من حقيبته شريط تسجيلٍ أسمع الحضور منه مقتطفاتٍ من خطب دينية سجلتها وكالة المخابرات الأميركية من مساجد عديدة، في دول عربية من مشرق العالم العربي ومغربه. وكانت كل الخطب تستشهد في تحريضها ضد أميركا بأقوال قياداتٍ أو وسائل إعلام سودانية.
عندها قال المسؤول الأميركي: لو صحّ ما قاله الوزير من تقييم لمساهمة السودان في تأجيج العداء لأميركا، فإنني الآن أكثر قلقاً. أخشى أنكم أشبه بطفلٍ يستخدم قنبلة شديدة الانفجار كلعبة يتسلى بها. وهو في هذه الحالة أشد خطراً على نفسه، ومن حوله، من شخصٍ يعرف أنه بالفعل يتعامل مع قنبلة.
يمكن أن يقال الشيء نفسه عن سجال هذه الأيام حول دعواتٍ تكاثرت لإقامة علاقاتٍ سودانية مع إسرائيل. ذلك أن المتحدثين الرسميين وشبه الرسميين طفقوا يتساءلون بالاستخفاف الطفولي نفسه: وماذا لو طبّعنا مع إسرائيل؟ ألم تسبق مصر "الشقيقة الكبرى" الجميع بالهرولة إلى أحضان إسرائيل؟ وها هي بلاد الحرمين تسابق المهرولين. وحتى ممثلو الشعب الفلسطيني عقدوا صفقات مع إسرائيل! فهل نصبح ملكيين أكثر من الملك، ومتمسّكين بالقضية الفلسطينية أكثر من الفلسطينيين، ومقاومين أكثر من مصر جمال عبد الناصر، وإسلاميين أكثر من خادم الحرمين؟.

وفي اعتقادي أن مثل هذا الخطاب إشكالي مثل سابقه، بل بسبب سابقه. ذلك أن الخطاب السوداني تطرّف في أول أيام الإنقاذ، حتى أعلن الحرب على العالم كله، على وقع أناشيد من نوع "أميركا روسيا قد دنا عذابها". وقد تحولت الخرطوم، مطلع التسعينات، إلى عاصمة للراديكاليين، من الحزب الاشتراكي اليمني وتنظيمات جورج حبش ونايف حواتمة إلى حركة حماس وأسامة بن لادن، ضاربةً عرض الحائط بنصائح المشفقين من داخل النظام وخارجه القادة وقتها بالتعقّل والاعتدال، وعدم التورّط في صراعاتٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، خصوصاً وأن البلاد كان في داخلها ما يكفي من الصراعات.
ولكن هذا التنطّع ما لبث، كما هو الحال في كل موقفٍ متطرّف، أن انقلب إلى تطرّفٍ مضاد، وتبنّى عين دعاة قرب عذاب أميركا مقولة أنور السادات إن 99% من أوراق الحل، حتى في الشأن الداخلي السوداني، هي في يدها. وقد بلغت الهرولة طلباً لرضا أميركا حد عرض التعاون المخابراتي وتقديم كل "الخدمات" للامبريالية الأميركية، وحتى شكوى بعض مسؤولي المخابرات لصحفٍ غربية إعراض الحكومة الأميركية عن قبول عروض بتسليم ملفات المتشددين الإسلاميين ممن دعمهم النظام في السابق.
ولا يقتصر الإشكال على الانتقال من تطرّف إلى تطرّف مضاد، بل من السعي إلى الجمع بين التطرّفين: دعوات التطبيع مع التباهي بدعم "حماس"، واتهام الخصوم السياسيين بأنهم أدوات في يد أميركا والغرب، والإسراف في النعي على من لجأ إلى إسرائيل أو استعان بها من أهل إقليم دارفور وحركاته المسلحة.
تناول قضية العلاقات مع الكيان الصهيوني بهذا الاستخفاف إثمٌ يضاف إلى إثم التطبيع العظيم، من إقامة علاقات مودّة وتعاون مع إسرائيل، في وقت تتمادى فيه في الظلم وتوسيع الاحتلال. فما فعلته دولٌ، مثل مصر، لم يكن عملية سلام، بل هو انتقالٌ إلى جانب العدو الصهيوني، ودعم حروبه ضد منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان وسورية، والشعب المصري. ولا يختلف ذلك عن اتفاق أوسلو الذي حوّل منظمة التحرير إلى جهاز شرطة لدعم الاحتلال. أما الدول التي تتسابق في الهرولة، وفي مقدمتها بعض دول الخليج، مثل الإمارات، فإنها بالعكس، تريد الاستعانة بإسرائيل في الحرب على شعوبها. وهذا يفسّر نشوة بنيامين نتنياهو، أكثر زعيم متطرّف لإسرائيل منذ نشأتها، وهو يتحدّث عن تهافت العرب على رضاه. فالأمر انقلب، بحيث أصبح العرب هم الذين يطلبون نصرة إسرائيل في معاركهم الصغيرة. أما إسرائيل فلم يعد لديها أعداء تخافهم.
الهرولة تجاه متطرفي الصهاينة هي إذن إثمٌ مركّب، لأنه سلوك لا أخلاقي في دعم لكيان غاصب ضد المستضعفين من المحاصرين، ومن يشرّدون يومياً. وهو استعانة بعدو مبينٍ على شعوب المنطقة، وضد من بقي من شرفاء العرب. وهو افتعال عداء غير مبرّر مع الشعوب العربية، فوق أنه مخالفٌ لتعاليم الإسلام في تحريم الانحياز للمعتدي، وموالاة من أخرج الأبرياء من ديارهم بغياً وعدواناً. ولا يعتدّ هنا بالتحجّج بخطب دول عربية كثيرة ودّ إسرائيل، لأن هذه الأنظمة معزولة من شعوبها، ويبغضها كل عربي حر، بمن في ذلك غالبية مواطنيها.
ويكفي جريمةً في حق السودانيين الانحياز لقمع هذه الأنظمة شعوبها، وحربها على جيرانها، ما ينعكس سلباً على السمعة الطيبة التي يتمتع بها السودانيون عربياً، تحديداً لأنهم يبذلون لإخوانهم الحب والمودّة، ولا يكنون البغض لأحدٍ أو يظهرونه. فهل نحتاج اليوم أيضاً لإظهار السودانيين أنهم المنحازون لنتنياهو، معاذ الله؟
ثم ما هي الفائدة التي تعود على البلاد من هذ الإثم المبين؟ إن التحجّج بضرورات الأمن القومي لهو عذر أقبح من الذنب، ويضع صاحبه في إطار التصنيف القرآني ضمن من "فِي قُلُوبِهِم مرَضٌ" ممن يسارعون في موالاة الأعداء، بحجة "نخشى أن تصيبنا دائرة". وما أكثر من في قلوبهم مرض، وفي عقولهم خلل، وفي أبصارهم عمى. يستنجدون بالعدو على أهلهم وإخوانهم، ويُنفقون أموال الشعب لدعم ذلك العدو، فتكون عليهم حسرة، ويهزمون ويخسرون الخسران المبين. وما أدرى هؤلاء على من تدور الدوائر اليوم قبل الغد؟
قبل ذلك كله وبعده، يجب أن نرفض جميعاً حجّة أن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين، وتحديداً قضية ما تسمى منظمة التحرير الفلسطينية. فهذا أشبه بمن يقول إن مسؤولية حل أزمة طائرة مخطوفة ليست مسؤولية السلطات الأمنية، بل مسؤولية المخطوفين، المطلوب منهم "التفاوض" بدون شروط مع الخاطفين! فأي خطلٍ أكبر من مطالبة الفلسطينيين، وهم رهائن، بالتفاوض مع الخاطف، بينما البقية يتفرّجون، ويلقون التهم، وينتظرون نهاية "عملية التفاوض" لمباركتها؟ هذا نموذج آخر لتفكيرٍ يجمع عمي القلوب والبصائر مع غياب العقول والمروءة والحس الأخلاقي.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي