الحب والطفولة

الحب والطفولة

09 اغسطس 2017
+ الخط -
مضى موسى في طريقه يتفحّص الوجوه وجهاً وجهاً، يبحث بين الناس عن ملامحها، يبحث عن طيفها، ينظر إلى المحلات الخاصة بملابس النساء، لعلها تبتاع شيئاً ما، يحدّق من بعيد داخل المحلات، حتى ترمقه إحداهن بنظرات مشمئزة، ظنّاً منها أنّ نظراته المريبة البائسة تنم عن شهوانية دفينة، وهذا هو حال العيون التي ضلّت السبيل والطريق إلى هدفها وحلمها، فأحياناً تؤّول نظراتها تأويلاً مشيناً.
اتبع موسى الخطى في الشارع الرئيسي الذي يُعرف بشارع البحر، وفي كلّ خطوة سؤال جديد مبهم، ينبع من رأسٍ شوّهته معارك تدور رحاها داخله وداخل وطنه المُغتصَب. لكنه عندما اقترب تماماً من السيرك، ذهبت أسئلته المبهمة ورأسه الضائعة أدراج الرياح، إذ ظهرت محبوبته أمام عينيه، لم يعبأ بمن معها أو حولها، فقط تشبثت عيونه بين عيونها وبين طفل لم يتجاوز السادسة أو السابعة من عمره ممسكاً بيدها.
أحس موسى برعشةٍ لا إرادية في أنامله التي تعجز عن أن تحل محل أنامل هذا الطفل، فكأن اليأس قد اختمر في أعصابه فلم يعد يسيطر على السيال العصبي المتجه إلى أصابعه.
دلفت الأسرة نحو مدخل السيرك، وسرعان ما أنهت الفتاة نظرات الإشتياق بنظرة فاترة مقصودة، كانت تخشى أن تفضح عيونُها هواها، سواء أمام عاشقها أو أحد من أسرتها، لم تكن لتستمر في منحه نظرات الهيام بهذه السهولة واليسر، لم تكن لتترك العنان لنظراتها الولهانة تغذي وتشبع الجوع العاطفي الذي يملأ عيون هذا الشاب، كأنها تقول في قرارة نفسها: لا بد أن يبدأ ويبادر أولاً، لا بد أن يأتي بين يدي ويقدم قرابين حبه وهواه إياي، فإذا كان سيكتفي بالنظرات فأنا سأحبسها عنه وأحرمه إياها، كانت النظرة الأخيرة الفاترة فيها من النقمة والملال، بسبب ركون موسى إلى النظرات الهائمة فحسب، ما يوازي الحب الذي يملأ قلبها تجاهه.
غاصت الأسر في الزحام داخل السيرك، وهنا هز موسى رأسه وهو يفرك عينيه من تحت نظارته، كمن يسترد وعيه واتزانه للمضي قدماً. أطبق نظارته على أنفه، ثم قصد مقهى في الجانب المقابل للسيرك. فضل أن يجلس هناك في ركن بعيد هادئ، أراد أن يبتعد عن الشباب المُنهمِك في الحديث عن كرة القدم، تكاد تشعر في تعصبهم للأندية الأوروبية، كأن بعضهم من مواليد مدريد أو مانشستر وهلم جرا، وأيضاً يبعد عن الصخب الدائر حول لعبة الطاولة ولعبة الدومينو. جلس هناك في هذا الركن الهادئ، وطلب فنجان قهوة، مدَّ يده إلى جيبه، وأخرج مجموعة من قصاصات الورق، فهو يملك كثيرا من هذه القصاصات، على الرغم مما ذاب منها في غسيل أمه، أمه التي كانت تضجر وتتنهد غيظاً عندما ترى هذه القصاصات المبتلة قد التصقت بالملابس، لكنّها سرعان ما تهدأ، وتلوم نفسها لأنها لم تتفحص جيوب ملابسه بنفسها، فكيف تعتمد عليه، وهو إلى الآن ينام بحذائه، عندما يعود من الخارج خائر القوى. الغريب في الأمر تلك اللذة التي كانت تشعر بها عندما كانت تخلع عنه الحذاء، أما موسى فيكون سابحاً في نومه العميق.
وُضع أمامه فنجان القهوة وكوب ماء، أخذ موسى يرتشف قهوته ويقلّب قصاصاته بين يديه، قصاصاته التي تملأ سطورها أحداث من الطفولة الحالمة الوادعة المرحة، من مثالية المراهقة، من بؤس وصدمة الشباب. هنا أراد موسى بشدّة أن يعطي محبوبته إحدى هذه القصاصات، لكنه فوجئ بل أحسّ وخزة في صدره وغصة في معدته لعجزه عن الإختيار بين القصاصات، فأيّ شخص يريد أن يخبرها عنه؟ أي صورة يريد أن يرسمها في خيالها عن محبوبها؟ أيعطيها "الطفل السارح" أم "المراهق المثالي الساذج" أم "الشاب العاجز" ، أم ماذا؟
عندما تذكر الطفولة، سكب دمعتين حارتين جرتا حول أنفه، وتمنى لو عاد طفلاً تصحبه فتاته في يديها الصغيرتين.
موسى باكثير
موسى باكثير
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير