باسل.. جرحنا المفتوح

باسل.. جرحنا المفتوح

08 اغسطس 2017

(فيسبوك)

+ الخط -
أن يحكم نظام ديكتاتوري على شخص معارض بالإعدام، وينفذ حكمه في اليوم التالي، ليس أمراً خارجاً على المألوف، ولا هو حدثٌ نادر، بل هو ممارسة طبيعية، تناسب جوهر الأنظمة التي تناصب كل من يقف ضدها العداء.
يضرب النظام في دمشق أمثلة تصلح نماذج تدريسية، وقد سمعنا وشاهدنا مئات الشهادات التي تؤكد أنه زاول "مهنة" الجلاد على مر العقود الخمسة التي حكم خلالها، وقد شهد سجنه في تدمر "حفلات" إعدام جماعية يومية، أزهقت فيها أرواح الآلاف، بعد استعراضات كوميدية على شكل محاكمات، كان المتهم يقف فيها صامتاً، فينظر القاضي في وجهه لحظةً قبل أن ينطق حكم الإعدام.
بعد مظاهرات عارمة ضد ممارساته، زاد النظام في ازدراء الحياة، بقصفٍ حارقٍ وشاملٍ وبأدوات تحرّمها الإنسانية، وكأنه متحالفٌ مع الموت، لكن خبر إعدام باسل الصفدي طفا بقوة، وانتشر بسرعة، فصار وجه باسل الوديع عنواناً في نشرات الأخبار.
العالم الذي بات ينظر إلى الثورة السورية كأنها مجاميع متحرّكة لا يكاد يظهر فيها أي تفصيل، ويتعامل بحماسٍ مفتعل مع عدّاد الموت الذي ارتفعت وتيرته، وتعاظمت أرقامه، عملَ مؤتمراتٍ شكلية لدعم الشعب السوري جاءت هوامش عاجزة عن إيقاف سبطانات البنادق من لفظ البارود الحارق. واعتبر الجميع أن المطلوب تأمين خيمة وسلة غذائية وقبر صغير، أو لجوء بائس لمحظوظين ناجين من حواجز عبور البحار، وشرطة الحدود وتعابير الكراهية، فيما كان الموقف من الموت يزداد بلادةً، مثل بلادة الآلات الحاسبة التي تحصي الجثث. ولم تكن الأسماء مهمة، بل كانت القوائم الطويلة المكتوبة على عجل، والمتخمة بعدد من قضوا، تدخل الأدراج، وتنام هناك، كما ينام أصحابها، في حفر باردة، وبدون شواهد لقبورهم. كان المطلوب ممثلاً لكل هؤلاء، يقف على مقربةٍ من القبر الذي سيضمه، ويقول: أنا باسل الصفدي، يا سادة، لقد قتلنا النظام. حاكمنا خلال دقيقة وأعدمنا بخمس دقائق. لا تضعوا صورتي على غلاف الجريدة، ولا تعنونوا باسمي نشرات الأخبار، فقط أوقفوا العدد عندي، فزوجتي حزينة جداً.
بعد مؤتمرات جنيف السبعة، وكل المهرجانات الصحافية التي تلتها، ومؤتمرات أستانة والرياض، وثلاث منصات للتفاوض، وثلاث مناطق للتهدئة، قابلة للزيادة، وسنوات الحرب السبع التي أتت على كل الألوان، يأتي خبر إعدام باسل، مباشراً وبكامل فجيعته، الناشط الذي يتقن استخدام الكومبيوتر حدَّ برمجته، يُعتقل قبل خمس سنوات، ويُحاكم ثم يحكم عليه بالإعدام وينفذ الحكم، ويجد النظام طريقةً لتسريب الخبر بكامل تفاصيله إلى الإعلام.. ماذا سيبقى من جنيف المدينة وفنادقها المريحة؟ وأستانة العاصمة التي لا تخفي تحيّزها؟ ومنصات الترضية؟ ومناطق التهدئة التي تمهد لحدود دائمة تجعل من الجزء عدة أجزاء؟
هناك خبرٌ ينسف بالديناميت كل شيء، ويبقي على النظام الذي بدأ مسيرته، ويصر على إكمالها بمن بقي..
لن يقرأ أحد السيمياء المختفية في خبر إعدام باسل الصفدي. قد يكتفي الإعلام بإعادة ترديده مرات، بصورته الأولية، بدون بذل الحذلقة في ترجمته، وقد يُلحقه بعناوين مماثلة، ليسهل العودة إليه في برامج أرشيفية، أو لإرساله إلى المنظمات الحقوقية فيساعدها في إعداد نشراتها.. هنا، لا يجب أن نقف عند نشر الخبر أو التعاطف مع زوجة المغدور، أو توظيف خواص "فيسبوك" هدف الإعادة. هنا، يجب أن نرد على الرسالة المتضَمنة في هذا الخبر، رسالة النظام الواضحة، والتي يؤكدها من دون أن يخجل وبفصاحة يجيدها. وفي هذا الوقت بالذات الذي يجاهد فيه ليبقى عائماً على بحر الجثث التي قتلها، يقول بصوت واضح: هذه جثة أخرى لخبير كمبيوتري لم يستخدم إلا رؤوس أنامله، ليكتب كلمات وحروفا على شاشةٍ مضيئة، شخص لا يزعزع كرسيا. ومع ذلك، يذهب إلى أقصى ما يمكن أن يذهب إليه الكائن الحي، يذهب إلى الموت. هذه سنتنا، فماذا أنتم فاعلون؟!