نعم.. الخلاف فلسفي بين قطر ودول الحصار

نعم.. الخلاف فلسفي بين قطر ودول الحصار

04 اغسطس 2017
+ الخط -
أجاب السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، في لقاء معه الأسبوع الماضي على القناة التلفزيونية الأميركية "بي بي إس"، عن سؤال المذيع شارلي روز: "ما هي مشكلة بلدك مع القطريين؟"، بالقول: الخلاف ليس ديبلوماسيا بقدر ما أنه فلسفي... واستطرد في تفسير إجابته: "إذا سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين أي شرق أوسط تريدون أن تروا خلال عشر سنوات من الآن، فإن إجابتهم ستكون مختلفةً تماما عمّا يريد أن يراه القطريون خلال عشر سنوات من الآن. ما نريد أن نراه هو (شرق أوسط) أكثر علمانية، مستقر، مزدهر، مُتَمَكِّن، وحكومات قوية". وأضاف: "ما رأينا قطر تفعله في السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة هو دعم جماعات كالإخوان المسلمين، حماس، طالبان، والمليشيات الإسلامية المسلحة في سورية، والمليشيات الإسلامية المسلحة في ليبيا، وهذا بالضبط عكس ما نعتقد أنه ينبغي أن تكون عليه منطقتنا. إذن، خلافنا هو حول ما ينبغي أن يكون عليه الشرق الأوسط في المستقبل".
إذا أخذنا بتوصيف العتيبة لطبيعة الخلاف بين دول الحصار وقطر، من حيث إنه "فلسفي" لا ديبلوماسي، فإنك ستجد أن هذا محل إجماع، بل إن قطر نفسها ستجد نفسها متفقةً معه. ولا أظن أن أحدا سيخالف العتيبة تقويمه من أن "الخلاف الفلسفي" هنا متعلقٌ فعلا بأي "شرق أوسط" نريد أن نرى في المستقبل. الخلاف الحقيقي سيثور حول من يريد حقا "شرق أوسط" يكون "مستقراً، مزدهراً، مُتَمَكِّناً، وحكومات قوية".
إذا ما أمعنا النظر في الفوضى التي تضرب أطنابها اليوم في المنطقة المنعوتة بـ"الشرق
الأوسط"، فإن مراقبا موضوعيا لا يمكنه أن يتجاوز عن الدور التوتيري التخريبي الذي تمارسه السعودية ومصر والإمارات فيه. يكفي التذكير هنا بدور هذا المحور الثلاثي في الثورات المضادة التي صادمت الإرادات الشعبية العربية، فانتهينا إلى حيث نحن الآن نعيش في صدع زلزاليٍّ لَمَّا تنته ارتداداتُه بعد. وهي، على أي حال، لن تنتهي في المدى المنظور، واليقين الوحيد هنا أنها عندما ستهدأ، فإن شيئا لن يبقى على حاله، سواء إلى الأحسن أم إلى الأسوأ. راهنت كل من الإمارات والسعودية على الثورات المضادّة، فهندسوا انقلابا في مصر، بالتعاون مع المؤسستين الأمنية والعسكرية هناك، بالإضافة إلى قوى حزبية وسياسية، غاظها أن ترى رئيسا مدنيا منتخبا من الإخوان المسلمين، مفضلة حذاء (بَيادَةَ) العسكر على ما زعمته كاذبةً من حكم "المُرْشِدْ". الأمر نفسه تفعله السعودية والإمارات ومصر بعد الانقلاب في ليبيا اليوم. فهم يدعمون خليفة حفتر، شبيه القذافي وصنوه، وكأنه كُتب على الليبيين أن يَلْفظوا طاغية بعد عقود من الترويع والتخلف لَيَحُلَّ محله آخر. ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فهذه الدول متورّطة في تفتيت اليمن وسحقه وتدميره، بعد أن أجهضوا ثورته السلمية الشعبية من قبل. كما أنهم متورّطون في سورية، بعضهم يعمل لصالح نظام بشار الأسد، كمصر عبد الفتاح السيسي، وآخرون يدعمون جماعات مسلحة كالسعودية، في حين لا تخفى أصابع الإمارات العبثية على أكثر من جبهة، فمن ناحية ثمّة مؤشرات على أنها تدعم مجموعات كردية نكاية بتركيا. ومن ناحية أخرى، هي تستضيف بعض أفراد عائلة الأسد. لا غبار على كل هذا الدعم لهذه الجهات في منظور هؤلاء، أما دعم قطر المزعوم "مليشيات إسلامية مسلحة" في سورية وليبيا فإنه هو المشكلة! هذا ديدن هذه الدول، تخريب الثورات الشعبية، والعمل على ضرب استقرار الدول التي عبرت بنوع من السلام، كما في تونس، ومحاولة الدفع بالشعوب إلى اليأس من أي إمكانيةٍ للتغيير في المنطقة.
إذا كان هذا الحال، فأي استقرار ضربته قطر؟ ثُمَّ أي ازدهارٍ تريده السعودية والإمارات والبحرين ومصر في المنطقة؟ هل كان "الشرق الأوسط" مزدهرا قبل الثورات العربية، لنبكي على نِعْمَةٍ مَضَيَّعَةٍ أفسدتها قطر؟ أم أن الازدهار لا يتحقق إلا عبر معادلة السيد والعبيد؟ هل كان "الشرق الأوسط" مُتَمَكِّناً قبل الثورات، حتى جاءت قطر وأفسدته، كما يفسد الخَلُّ العسل؟ ثُمَّ هل من زَلْزَلَ استقرار "الأنظمة القوية" هي قطر و"الجزيرة" أم أن الفساد والظلم والقمع والتخلف هو من أتى على مِنْسَأَتها فأكلوها، حتى اختلّ توازنها فوقعت؟ وهي لا محالة سَتُسْقِطُ الآخرين، ما بقي الحال على ما هو عليه. مشكلة العتيبة والمحور الذي يمثله أنهم لا يريدون أن يفهموا أن منطق الراعي وقطيع الغنم لم يعد يجدي نفعا، ولن يحمي عروشا من الانهيار. لا يمكن للشعوب أن تبقى صامتةً على معادلة أن الأوطان حظائر تُسَمَّنُ فيها الشعوب، لِتُذْبَحَ أو تُرْكَبَ أو تُهَان. هذا عكس منطق الأشياء، وعكس ناموس الكون، وإنْ لم نبادر إلى الإصلاح، فإن الانفجار واقعٌ، شاء من شاء وأبى من أبى، وحينها لن تنفع جيوش الأرض قاطبةً في حماية حكم بغيض مُتَنَمِّرٍ على شعبه، متخلفٍ وخاضعٍ مستكين أمام أعداء أمته. لا يحتاج الأمر قطر، لتشغيل صاعق التفجير، فالتشغيل سيكون ذاتيا وتلقائياً.
نعود الآن إلى مسألة "الشرق الأوسط العلماني" الذي يقول العتيبة إن محور الدول التي يتحدّث باسمه يريد أن ينجزه على عكس قطر التي تدعم جماعاتٍ كالإخوان المسلمين وحماس وطالبان والمليشيات الإسلامية المسلحة في سورية وليبيا. ابتداء، لاحظ أن العتيبة لم ينبس ببنت شفة
عن "الديمقراطية" في "الشرق الأوسط" الذي قال إن المحور المذكور أعلاه يريد أن يراه في العشر سنين المقبلة. هذا هو بيت القصيد. الديمقراطية عدوتهم، والخوف منها مَرَدُّ استشراسهم اليوم. وقفت قطر مع حرية الشعوب وكرامتها، وَأَحْيَتْ في نفوس العرب، عبر مؤسساتها الإعلامية والبحثية، أحلام العيش في مجتمعاتٍ حرة كريمة وديمقراطية، وهذا ما لا يمكن أن تقبل به تلك الأنظمة الدكتاتورية المَجْبولَةِ على القمع والاستعباد. الأمر الثاني أن العتيبة أراد من حديثه عن "العلمانية" استفزاز تيارات الإسلاموفوبيا في أميركا والغرب المعادية لكل ما يمت للإسلام بصلة وتحريضهم على قطر. ونحن نعلم، من رسائل البريد الإلكتروني المسرّبة للعتيبة، أن دولته تدعم مراكز بحثية أميركية ومؤسسات متخصصة في صناعة الإسلاموفوبيا، مثل "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات". ثالثا، لم يحدثنا العتيبة عن معنى "العلمانية" التي يبتغيها محوره؟ هل هي فصل المجالين الديني والسياسي فحسب؟ لا أريد أن أدخل في جدل فلسفي بشأن مفهوم العلمانية، فهذا ليس مكانه، ولكن السؤالين اللذين لا يجيب عليهما العتيبة هنا: هل تأميم أي نظام للدين مضاد لفهم محوره للعلمانية؟ وهل توظيف الدين لتسويغ القمع والتَسَلُطِ والكبت مضاد كذلك لمفهومهم للعلمانية التي يرتجونها؟
لا العتيبة ولا محوره سيقدّمان أجوبة هنا، فالسعودية ومصر والإمارات هم أَضْلَعُ الأطراف في تأميم الفضاء الديني رسميا والسطو عليه، كما أنهم أَضْلَعُ الأطراف في انتهاك حرمة الدين والعبث بقدسيته وطهارته وإنسانيته، وذلك عبر تحويلهم إياه إلى سوط يكوي ظهور الشعوب، لإرغامها على تَجَرُّعِ المذلة والمهانة والخضوع والاستكانة. أليس هذا ما يقوم به الأزهر في مصر، وهيئة كبار العلماء في السعودية، ومجلس حكماء المسلمين المدعوم من الإمارات؟ أليس هذا هو الدور الذي يلعبه بعض المُتَقَمِّصينَّ دور "دعاة" من صوفيين وسلفيين وحداثيين، وتقف وراءهم ماكينات هذه الدول إعلاميا وماليا؟ المثير أن العتيبة يتغابى هنا، ظاناً أن أحدا لن يلاحظ أن شرعية "السيف" في السعودية "دينية" مزعومة.
نعم، هو خلاف فلسفي بين من يريد الحرية والكرامة والاستقلال ويعمل على إنجازها ومن يريد أن يبقينا عبيدا ومتاعا للحاكم، ينتهك حرماتنا كيف شاء ووقتما شاء، وَيَوَظِّفُ، في سبيل ذلك، كل شعار براق زائف، ولا يستحي أن يجاهر بالتعاون مع أعداء أمته. لا يهم معسكر الإفك العربي أن تنتهك حرماته، وتداس كرامته، وتمرغ جباهه في الوحل على يد الأجنبي، المهم أن لا تتجرأ شعوبه على أن تطالبه بحريتها وكرامتها.