المغرب.. الحاجة إلى السياسة

المغرب.. الحاجة إلى السياسة

04 اغسطس 2017

محمد السادس: بين المسؤولين من فشل في مهمته (2/5/2017/Getty)

+ الخط -
ربما لم ينتظر المغاربة خطابا ملكيا بمثل الترقب الذي انتظروا به خطاب الملك محمد السادس الذي ألقاه، قبل أيام، بمناسبة جلوسه على العرش، بسبب حراك الريف الذي كان في حاجة لتدخل من أعلى هرم في السلطة، لتطويق امتداداته السياسية والاجتماعية.
لأول مرة، يحمل خطاب ملكي كل هذا الاستياء والغضب من الأحزاب والنخب ورجال السياسة والإدارة الذين نالوا نصيبا وافرا من التقريع غير المسبوق. تحدث الملك عن اختلالات كثيرة تعرفها برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية وسياساتها، وعدم مواكبتها تطلعات المواطنين، وعدم توازنها المجالي والترابي. اختلالاتٌ تعود إلى ضعف الطبقة السياسية، وعدم كفاءة الإدارة التي أضحت عبئا مجتمعيا وسياسيا، بسبب ابتعادها عن انشغالات الناس وهمومهم.
قدم الملك تشخيصا وافيا وواضحا لمعضلات اجتماعية واقتصادية وسياسية تهم مغرب اليوم. منها ما قدّمها مباشرة وبصراحة، كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب، والنخب، والمجالس المنتخبة، والإدارة العمومية، وتفشّي الريع واستغلال النفوذ والسلطة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومنها ما تطرّق إليها، ضمنيا، كأزمة التعليم وعدم مواكبته عالم الاقتصاد الذي يتطور بسرعة مذهلة، فقد أصاب الملكُ حين قارن بين القطاعين العام والخاص، فاعتبر أن الأخير قادر على اجتذاب أفضل الكفاءات لتسيير المشاريع الاستثمارية الدولية الكبرى في المغرب، عكس القطاع العام الذي يعاني من ضعف الحكامة وقلة المردودية. يبدو ذلك اعترافا ضمنيا من أعلى سلطة في الدولة بإفلاس المدرسة العمومية، وعدم قدرتها على مواكبة سوق العمل الدولية المتطوّرة، هذا إذا علمنا أن معظم العاملين الذين تستوعبهم هذه المشاريع خريجو المعاهد والجامعات الخاصة، ما يضعنا إزاء مفارقات جد دالة.
انتقد الملك تسابق الطبقة السياسية إلى الاختباء خلف المؤسسة الملكية، وعدم قدرتها على الفعل والمبادرة والانكباب على مشكلات الناس. وأرجع مشكلة الريف إلى الحسابات السياسية الضيقة والصراع الحزبي والخطابات الشعبوية، وهي إشارة واضحة إلى الصراع بين حزبي "العدالة والتنمية" و"الأصالة والمعاصرة"، وهو الصراع الذي طبع المشهد السياسي خلال السنوات الأخيرة.
يتعلق الأمر بإقرار صريح بانهيار كامل لأدوار الوساطة التقليدية التي تقوم بها عادة الأحزاب
والنقابات والمنظمات الأهلية، وشبكات النخب المحلية والجهوية والوطنية، ففي وقتٍ يُفترض فيه أن تُشكل وعاء مؤسساتيا لاستيعاب الضغوط والمطالب والتوترات الوافدة من قلب المجتمع، باتت مجرّد قنوات لتصريف الريع والمصالح الشخصية والحزبية، وتغذية شبكات النفوذ المختلفة.
ذاك ما يُستشف من الخطاب الملكي. لكن، في الوقت نفسه، يفضي بنا هذا إلى تساؤلات مركزية بشأن علاقة كل ما قاله الملك ببنية السلطة وعلاقتها بالأحزاب والنخب، إذ لا يمكن فصل تشكل الأخيرة ونموها وتطورها عن الأسس البنيوية التقليدانية التي تحكم النسق السياسي المغربي الذي ما زال يجد صعوبةً بالغةً في استيعاب المشروعية الديمقراطية داخل هياكله ومؤسساته.
وعليه، تصبح أزمة الأحزاب والنخب على صلةٍ وثيقة بطبيعة هذا النسق، والتوزيع العمودي للأدوار داخله. فعلى سبيل المثال، لا يمكن فصل أزمة الإدارة العمومية عن دوائرها المجتمعية والثقافية والسياسية، فهذه الإدارة، بنص الدستور، ''موضوعة تحت تصرّف الحكومة''، ما يعني أن الأخيرة هي المسؤولة عن تخلف هذه الإدارة، وعجزها عن القيام بمهامها في كل ما يتعلق بالتنمية، غير أن هذا يدفعنا صوب تساؤل مركزي آخر: هل تمتلك الحكومة، فعلا، صلاحيات تنفيذيةً واضحةً ومتكاملة، تجد سندها في تأويل برلماني وديمقراطي مفترض للوثيقة الدستورية؟
يطرح حديثُ الملك عن ''تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ونهاية التهرّب من المسؤولية، والإفلات من العقاب والتفعيل الكامل والسليم للدستور'' إشكالية سياسية مركزية: من يقف حجرة عثرة أمام التحول الديمقراطي في المغرب الذي يُعد ربطُ المسؤولية بالمحاسبة أحد
عناوينه الكبرى والدالة؟ لِم لَم تستثمر حكومة الإسلاميين السابقة التي قادها عبد الإله بنكيران مقتضيات الدستور، للدفع باتجاه تكريس الخيار الديمقراطي؟ ألم يقل الملك بالحرف في خطابه ''ما يثير الاستغراب أن من بين المسؤولين من فشل في مهمته. ومع ذلك، يعتقد أنه يستحق منصبا أكبر من منصبه السابق''؟ ما يعني، بشكل أو بآخر، أن ما يقع في الحسيمة تتحمّل وزره حكومة بنكيران، بسبب تقاعس رئيسها عن ممارسة صلاحياته التي يخوّلها له الدستور.
مؤكد أن كل هذه الأسئلة تفضي إلى مساءلة بنية السلطة في المغرب، خصوصا فيما له صلةٌ بحدود تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، ومساحات البياض الكثيرة التي تحف توزيع السلط على المستوى التنفيذي، وتأثير ذلك على السياسات العمومية في مختلف مراحل إعدادها وتنفيذها وتقويمها.
هناك حاجة متنامية في المغرب إلى سياسة مغايرة واضحة، لا مجال فيها لكل هذا الخلط في الأوراق؛ سياسة يتحمّل فيها الفاعلون مسؤولياتهم الأخلاقية والسياسية، وتتصالح فيها السلطة والنخب مع المجتمع، ضمن عقد اجتماعي جديد، يأخذ بالاعتبار طبيعة اللحظة وإكراهاتها المختلفة، ويتجاوز، بشكل نهائي، حالة التعويم المؤسساتي والسياسي التي نعيشها، من خلال عرض علاقة الدولة بالمجتمع على النقاش العمومي، ليس باعتبارها أحد أوجه الإصلاح الدستوري والسياسي التقليدي، كما دأبت على طرحه السلطةُ والنخب. ولكن، باعتبارها تقع ضمن تطلعٍ واضح صوب مشروع مجتمعي جديد، يعيد تحديد أدوار الفاعلين بشكلٍ يربط المسؤوليةَ بالمحاسبة، نصا وفعلا.