الجولاني والهروب إلى الأمام

الجولاني والهروب إلى الأمام

30 اغسطس 2017

أبو محمد الجولاني.. تراكم العداوت ونبذ البيئات الحاضنة

+ الخط -
لم يكتف أبو محمد الجولاني برفض مخرجات مباحثات أنقرة بين فصائل من الجيش السوري الحر (سبعة فصائل) وضباط روس يوم 29/12/2016، وموافقتها على الدخول في وقف إطلاق نار، والمشاركة في مفاوضات أستانة، فحسب، بل صعّد في الخصومة باتهام هذه الفصائل بخيانة "الجهاد الشامي"، ودخل في مواجهة ميدانية مباشرة معها مصحوبة بدعوة إلى توحيد الفصائل لمواجهة ما يعتبرها مخططات تآمرية برعاية أجنبية، حيث هاجمت قوات جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقا) يوم 24/1/2017 مقرّات "جيش المجاهدين" و"الجبهة الشاميّة" في محافظة إدلب وريف حلب، على خلفية مشاركتها في محادثات أستانة، وتحرّك سياسيا لتشكيل تحالف عسكري جديد، بالاتفاق مع فصائل مصنفة معتدلة (حركة نور الدين الزنكي ولواء الحقّ وجبهة أنصار الدين وجيش السنّة والتيار المتشدّد في حركة أحرار الشام) تحت اسم "هيئة تحرير الشام"، وقد أعلن عن ولادته يوم 28/1/2017 مع دعوة كلّ الفصائل إلى الانضمام إليه "من أجل الوحدة وتحقيق أهداف الثورة المتمثّلة في إسقاط النظام وإقامة الشريعة"، تذوب فيه جبهة فتح الشام، تجنبا لتعرّضها لعملية عسكرية لإخراج "الجبهة" من المشهد السياسي "من أجل تمرير حل سياسي في سورية، باتفاق قوى دولية وإقليمية"، وفق إعلان قادتها. وقد عكست ممارسات "الهيئة" وتعاطيها مع فصائل المعارضة، المصنفة معتدلة، سعيها المحموم إلى السيطرة العسكرية والسياسية على قوى الثورة وتوجيه فعالياتها لمواجهة مخرجات أستانة ومفاوضات جنيف، وإجهاضهما لصالح رؤيةٍ سلفيةٍ، لا تنسجم مع أهداف الثورة في الحرية والكرامة (اعتبرت في بيان لها يوم 10/5/2017 الاتفاق على تخفيف التوتر، والذي وقعته الدول الضامنة في أستانة، مؤامرة، والموافقة عليه "خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين، وللدماء التي سُفكت في سبيل تحرر المسلمين في الشام"، وقتال فصائل المعارضة المتوقع مشاركتها في عملية عسكرية تركية مرتقبة "فرض عين على كل مسلم").
يلمس متابع مواقف أبي محمد الجولاني، وتكتيكاته السياسية والميدانية، تكراره خطواتٍ سبق أن قام بها، فقد كان رد فعله الأول والأخير على تحولات المشهد السياسي في أستانة وجنيف 
واحدا: الهجوم على فصائل المعارضة المعتدلة، والسيطرة على مواقعها وأسلحتها وتصفيتها، ما لم تقبل الرضوخ لقراراته وخياراته، من دون ملاحظة أن عمليةً من هذا القبيل لن تحدث تغييرا في التوازنات، وانقلابا في التحولات الجارية على صعيدي السياسة والميدان، بل إنها، في جوانب كثيرة منها، ذات أثر عكسي، إنْ لجهة مترتباتها المحلية، بتوتيرها المناخ مع الفصائل المعتدلة، وتعميق العداوة معها، وتكريس القطيعة مع حواضن الثورة، أو لجهة مترتباتها الإقليمية والدولية، بصبغها مناطق سيطرة المعارضة باللون الأسود الذي يرمز إلى سيطرة التطرّف والإرهاب، وجعلها هدفا مشروعا لقوات النظام وحلفائه، ولضربات التحالف الدولي في آن. ما يعكس افتقاره إلى قدرات (وإمكانيات) خرق المعادلة وتغيير توازنات القوى على الأرض، وفقر خياله، وعجزه عن التوقع والتصور والتخطيط للتأثير على التحولات والتغيرات، وتحاشي الوقوع في أسرها، وفي الكمائن والفخاخ التي نصبتها القوى المحلية والإقليمية والدولية، من أجل إحكام الطوق على قوى الثورة، وشل قدرتها على الفعل والحركة، ودفعها نحو الاستسلام، الذي كشف عن فقر خياله ذهابه إلى مواجهة قوى الثورة، وضربها عسكريا بذريعة منعها من المشاركة في مؤامرة دولية ضد "الهيئة"، وتقديمه خدمة مجانية للنظام وحلفائه.
لم تختلف استجابة أبي محمد الجولاني، وأركان قيادة هيئة تحرير الشام، على دعوات تجنيب محافظة إدلب مصير الموصل والرقة (مجازر ودمار وتهجير للمدنيين) التي طرحتها قوى معارضة ودول حليفة، واشتملت على دعوة "الهيئة" إلى حل نفسها من أجل رفع اللون الأسود عن المحافظة الذي ترتب على هجومها أخيرا على مواقع حركة أحرار الشام الإسلامية، وسيطرتها على معظم المحافظة، وإعادة اللون الأخضر إليها. فقد رفضت الدعوة، واعتبرتها مقدمة "لإنهاء الثورة"، وجزءا من خطة دولية "للإبقاء على الأسد وتضييع دم الشهداء"، واعتبرت تمثيل منصات الرياض وموسكو والقاهرة للثورة باطلا، وربطت موافقتها على الحل السياسي بـ "تضمنه مبادئ الثورة السورية وأهدافها"، وفق ما جاء في خطبة جُمعةٍ ألقاها القائد العام "للهيئة" هاشم الشيخ، المكنى بأبي جابر في مسجد مدينة بنش في محافظة إدلب، علما أن تصور الجولاني و"الهيئة" أهداف الثورة يتعارض مع تصور قوى الثورة وحواضنها الاجتماعية، ولا يحظى بقبول حتى فصائل تتبنّى التوجه السلفي، وقد جدّد الشيخ الدعوة إلى "مشروع جامع يوضع له برنامج يرتكز على جهة سياسية تمثل الشعب، وجهة عسكرية تحمي الشعب"، في عودةٍ واضحةٍ إلى منطلقات جبهة النصرة لأهل الشام التي لا ترى في التصورات السياسية والقوى العسكرية الأخرى إلا مشروع تآمر وخيانة، تصفها، في أدبياتها، بالردة، وتضعها تحت سيف القصاص بشرعنة قتالها دينيا، وفق قراءتها للإسلام، والتي تراهن على قدراتها التنظيمية والعسكرية، للهيمنة على أي تحالفٍ تشترك فيه مع قوى سياسية وعسكرية، لا تمتلك إمكاناتٍ، أو قدراتٍ، توازن إمكاناتها وقدراتها.
كان الجولاني، وأركان قيادة الهيئة، قد استبقوا الدعوة إلى تجنيب محافظة إدلب المجازر
والدمار، بالدعوة إلى إدارة مدنية للمحافظة، وانخراط الفصائل المسلحة في تحالف عسكري جديد، يتبنى خطة للمواجهة لحماية المدنيين، والعمل على تحقيق أهداف الثورة، من دون اتفاقٍ على ماهية هذه الأهداف، في محاولةٍ منهم للتغطية على سيطرتها على المحافظة، واحتواء الدعوة إلى تحريرها من التطرّف بالتلطي خلف الإدارة المدنية والحكومة المؤقتة، والمحافظة على تدفق المساعدات الإنسانية على المحافظة في الوقت نفسه، لتحاشي تحمل تبعات انقطاعها، إلا أن إحجام معظم الفصائل عن الاستجابة للدعوة أعاد الموقف إلى المربع الأول، ودفع الجولاني و"الهيئة" إلى تقديم رد مباشر على دعوة "الهيئة" إلى حل نفسها، بدعوة الأطراف الأخرى إلى حل نفسها، والدخول في جسم سياسي واحد، والتصدّي لدعوات التدخل الخارجي في المحافظة.
نسي الجولاني وقادة "الهيئة" ما زرعوا وما ورّثوا من جراحٍ وعداواتٍ بحربهم ضد فصائل الجيش السوري الحر، وبطشهم بالحواضن الاجتماعية، وأنهم الآن وسط محيط معاد ورافض، ليس لتصوراتهم فقط، بل ولوجودهم في المحافظة، وإن دعوتهم الفصائل إلى التحالف، والعمل على مشروع سياسي وعسكري موحد، ليست إلا مواصلة لسياسة الهروب إلى الأمام التي اتبعتها في مواجهة التطورات والتغيرات المتلاحقة.