سِفْرُ حسين يوسف

سِفْرُ حسين يوسف

29 اغسطس 2017

صور الجنود اللبنانيين المختطفين في اعتصام لأهاليهم (27/8/2017/فرانس برس)

+ الخط -
كنتُ عموده الفقري، وكنتُ أشعر أنه، لو انطويتُ أو ارتخيت، سينهار. كان ينبغي لي أن أبقى واقفاً، أن أبقى جاهزا وحاضراً، طوال ثلاث سنوات. 1120 يوما بالتمام والكمال، بساعاتها ودقائقها ولياليها وثوانيها. أبقى منتصبا ليعلم أني هنا، دائما، أبدا، إلى أن يعود، وليُريهم أنه يملك "ظهرا"، وأن هذا الظهر هو أبوه. كان يجب أن أُري خاطفيه السود أن لابني ظهرا، وكنتُ متيقنًا أنه سيكون لهذا تأثيرٌ ما على أولئك الوحوش. كلّما نطق أحد السياسيين بأمر، خفت على محمد ورفاقه، فرحتُ أعاود شدّ الخيوط إلى جانبها الإنساني، الأخلاقي، الـ... أحكي وأصرّح وأظهر في وسائل الإعلام، وأنا عيني على محمّد، علّه يلمحني بطريقةٍ ما، علّ جرعة حبّ صغيرة تصل إليه في مطهره ذاك، علّه يبلّ ريقه بخبر يأتي من عالمه، من كوكبه الصغير.
آخ يا محمد. آه يا رجلي الصغير. أتأمّل في الصورة التي نشروها لك ولرفاقك، ومن خلفكم يمتدّ علمهم الأسود المقيت. أتأمل في عينيك خلف النظارات، في ملامح وجهك، في رأسك، شعرة شعرة، في يديك، في أصابعك المتباعدة. أقول ربما ضمّنتَها رسالة سرية ما، إشارة ما. أنت في المقدّمة، يا رجلي الصغير، ناظراً إلى الكاميرا وعاقدا يديك. جسدك متراخ بعض الشيء، وذقنك قد نبتت. لا أدري كم من الوزن قد فقدت. لكن، لا بأس، يا بطلي الصغير، نعوّضها سريعاً بعد عودتك. لكن فقط لو أمكنني الوصول إليك اللحظة، شمّك، ضمّك...
خُطف محمد ابني في 2 أغسطس/ آب 2014، ولم أعد أذكر ما كنت فاعلا يوم وصل إلي خبر اختطافه. ما أذكره هو ظهري الذي أحسسته وقد انكسر قطعتين. هذا ليس تعبيراً مجازيا، بل حتى أني قد سمعت صوت طقّة العظام، وكان عليّ أن أفكّر سريعا في كيفية بقائي واقفا. كان ينبغي أن أعثر على قضيب حديدي، وأن أدخله في نخاعي الشوكي، بين الفقرات، وهكذا كان.
الآن، وقد وصل إليّ خبر موته وموت رفاقه منذ فترة طويلة، مددتُ يديّ إلى أعلى عنقي، وسحبتُه وانهرت. حملوني إلى المستشفى، وهم لا يدرون أني، وخلال 1120 يوما، كنتُ مشدوداً كالوتر، وكنتُ شاعراً بطعم الصدأ والحديد في قلبي وفي عينيّ. الصدأ في رأسي، يا بنيّ، وبين أضلاعي، وأنا متعلّق بنثرة أملٍ في أن أراك عائدا إليّ. واليوم، وبعد أن أخبرونا بأنكم جثامين يتم انتشالها من تحت التراب، ها هي الدموع اللئيمة لا تأتي، ولا اللعاب. إنه الصدأ والجفاف، ولا شيء سواهما على امتداد روحي المشقّقة، وذاك القهر الحارق المقدّد، كأنه حجر كاوٍ من الجحيم.
يا محمّد. يا محمّد. لمَ لم تكن من ضمن المجموعة الأخرى التي أطلقوا سراحها؟ أما كان يمكن أن يختطفوك وتنجو؟ أن تهرب؟ ألا تموت؟ يا محمّد. يا محمّد. أين أذهب الآن، وماذا أنا فاعل يا بنيّ؟ غدا سيرفعونها خيمة الانتظار هذه، وسينفضّ عنّا الجميع، وسنبقى يتامى كأشجار محروقة، مقصوفة، عُلّقت عليها صورُكم التي لن تلبث أن يمحوها المطر والريح. ماذا أنا فاعل يا محمّد بعد انفضاض الجمع، وانطفاء الضوء، وحلول الصمت والظلام. ماذا أنا فاعل بأشيائك وذكرياتك وخوفك من الأشباح. ماذا أنا فاعل بأشباحي، يا بنيّ، وبتصوراتي إياك، وأنت بين أيديهم، نزاعك الأخير، وحيدا، وبعيدا، وصغيرا كملاك.
لقد أمّلونا يا محمد، وأنتم موتى متحدون بالتراب. ووعدونا، وحنثوا بوعودهم، وتاجروا بنا وبكم، وكذبوا علينا، وساوموا، وضحّوا بنا، وأنا مدركٌ هذا كلّه يا محمّد، ومتمسّك بالدولة التي أنت أحد أبنائها، رموزها، وعاضّ على جرحنا ومكابر.
أخيرا، تخلّصتَ من خاطفيك، يا بطلي الصغير، وتخلّصتَ من الجميع. أنتَ يا محمد يوسف، ويا خالد مقبل حسن، ويا محمود عمّار، ويا عبد الرحيم دياب، ويا إبراهيم مغيط، ويا سيف ذبيان، ويا حسين الحاج حسن، ويا مصطفى وهبي، ويا علي زيد المصري. أنتم يا إخوة محمد، وموتكم الذي في رقابهم جميعًا.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"