رغم الخيبات كلها

رغم الخيبات كلها

28 اغسطس 2017

(علي العامري)

+ الخط -
تلوذُ المرأة المرهقة التي تعاني من ضجرٍ قاتل بعزلتها جدارا أخيراً تتكئ فيها على عالم من صمتٍ عميقٍ أليف، تضيق بفائض الثرثرة المتكدّسة في المجالس التي باتت متوقعةً مكرّرة، لا تخلو من نفاقٍ ومداهنةٍ وكراهية كامنةٍ وحقد دفين وغيرةٍ وحسد يضمره البشر مجانا لبعضهم، مشاعر سوداء متوارية بإتقان خلف الابتسامات الزائفة وتعابير المحبة المفتعلة. ترى المرأة كل تلك التفاصيل جلية بعينٍ خفية، لا يدركها سواها، يحدث لها ذلك الكشف بفعل لعنة الانتباه الفائق التي أصيبت بها مبكرا، فأحالتها إلى امرأة متقدة الحواس، عديمة الصبر، متيقظة على الدوام. روح من قلق متوثبة تقف على حافة الأشياء بصورة دائمة.
يشقيها ذلك، ولا تجد له خلاصا. تختنق الكلمات وتتبعثر، تتراجع في جوفها. حين تضطر للجلوس مع مجموعةٍ من الناس، يداهمها إحساس موجع بالغربة المطلقة، تفقد القدرة على المجاملة، وتكتفي بمواجهتهم بابتسامةٍ غامضةٍ عصية على التفسير، تخفي كثيرا من الأحزان وخيبة الأمل. تستمع بلا اهتمام يُذكر لنقاشاتهم الصاخبة في شؤون الدنيا العالقة.. سياسة، دين، رياضة، قضايا المرأة، أحوال اجتماعية بائسة، فقر وبطالة وفساد، صفقات ورشاوى، صعود غير مفهوم لمدّعين بلا موهبة، تنظم لكتبهم الرديئة حفلات توقيع مكتظة، يرشحون لجوائز ملفقة، فيصدّقون كذبتهم، ويتصرفون مثل نجوم من وهم. تستمع إلى الأحاديث، وتكتفي بإيماءات وهمهماتٍ لا تعني شيئا محدّدا، تدرك أن مجادلة أي متشبث برأيه تبديدٌ لطاقة الروح بلا طائل. الكل يدّعي احتكارا للمعرفة والحكمة، ويطلق الأحكام المسبقة على الكل، ولا أحد يرغب بالحوار الحر، حيث الإصغاء الفعلي للآخر، في ظل ثقافة أبوية صارمة، تقصي الآخر، وتسفّه آراءه.
حرٌّ شديد، وضجر قاتل.. تتابع لقاءً تلفزيونيا تجريه مذيعة شابة، ترتدي ثيابا صاخبة الألوان، وتضحك بانطلاق من دون أدنى إدراكٍ لعمق ما يقوله الضيف الأربعيني الأشقر ذو اللحية الكثة، والشعر الطويل المجعد، والنظّارات الداكنة التي تخفي مساحةً كبيرةً من وجهه. قال نجم الروك الشهير في معرض الحديث عن تجربته المريرة في عالم المخدرات الرهيب: أصبح عقلي مثل شارع محفوف بالمخاطر، ينبغي ألا أتجول فيه منفردا.. تمتمت بأسى: أما عقلي فإنه مثل حقل ألغام مزروعة بدقة متناهية، ما أن أنجو من واحد حتى يثور الآخر في وجهي، ويقطع روحي إلى أشلاء، ينبغي أن أغادره إلى غير رجعة.
تضغط زرالريموت كونترول، لتظهر أمامها صور أهل القدس معتصمين بالشوارع المؤدية إلى المسجد الأقصى. مشهد رائع يجسّد، بقليلٍ من الكلام، معنى إرادة الحياة حرّة كريمة، لا ذلّ فيها ولا مهانة. تشعر بالحسد الدفين إزاء قدرتهم على الاحتمال والعناد، يداعب الأمل روحها المثقلة بخجل، وهي تتابع لقاءً مع سيدة في منتصف العمر، تقول بطلاقة وحماسة ويقين: سننزرع هنا إلى أن يفتحوا أبواب مسجدنا. ممنوع على الرجال العودة إلى بيوتهم. الطعام يأتيهم إلى حيث هم، والحلوى.. المهم أننا مرابطون، ولن تقفل باب مدينتنا.
يُخجلها تصميم المرأة الصامدة، تبحث في داخلها عن بصيص قوة ينتشلها من حالة اللايقين، تأخذ قرارا بضرورة التغيير. تدرك أن ذلك يبدأ من التحكّم بهواجس النفس الأمّارة بالحزن. لا بد من شحذ الطاقة وتحريضها، وملء الفراغ الذي تكرهه الطبيعة بالحركة والأمل. تذكرت ممثلة هوليود، إيفا غاردنر التي باعت مذكّراتها الحافلة بقصص الحب والشهرة والخيانة، لكي تتمكن من تسديد فواتير العلاج الباهظة. قالت غاردنر على فراش موتها: لحياتنا أن تكون أكثر روعةً لو عرفنا كيف نحياها. قالت ذلك، وهي المريضة الهزيلة الحزينة المخذولة التي فقدت ثروتها، وقد تقدم بها العمر، متمسّكة بالأمل، على الرغم من الخيبات كلها.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.