كأنها تغريدة البجعة.. السورية

كأنها تغريدة البجعة.. السورية

28 اغسطس 2017
+ الخط -
كان الملك عبدالله الثاني من أوائل من دعوا (أو نصحوا) بشار الأسد بالتنحّي عن السلطة في سورية، في نهايات العام 2011. أما في هذه الأيام، فإن العلاقة بين عمّان ونظام الأسد في دمشق تمضي في "منحىً إيجابي"، على ما قال الوزير الناطق باسم الحكومة الأردنية، محمد المومني... ليست المساحة في السنوات الست، بين هذا المنحى وتلك الدعوة، زمنية. إنها جغرافية أولا، تتبدّى، مثلا، في أن قوات الأسد كانت بالكاد تسيطر، في واحدةٍ من أطوار هذه السنوات، على خُمس سورية، فيما يصل وجودها الآن إلى ثلاثة أضعاف هذه المساحة أو ربما أكثر. كما أن مساحة السنوات الست سياسية، بشأن تبدّل مواقف دول كانت في مقدمة "أصدقاء سورية" (هل من يتذكّر؟)، وأولها فرنسا التي يقول وزير خارجيتها، جان إيف لودريان، الأسبوع الجاري، إن تنحّي الأسد عن السلطة ليس شرطا لتسوية الأزمة في سورية. أما قول الوزير السعودي، عادل الجبير، كلاما شبيها بهذا، قبل أيام، فلا يذكّرك فقط بكلامه الغليظ في فيينا ولوزان وبرلين ولندن، قبل نحو عامين، عن مغادرة الأسد الحكم في دمشق استحقاقا بديهيا لإنهاء الصراع في سورية، وإنما أيضا باجتماعاته "التنسيقية"، في عدة مؤتمرات ولقاءات موسّعة عقدت للشأن السوري، مع نظيريه القطري والتركي. وانعطافة الرياض الظاهرة في الكلام الجديد للجبير موصولةٌ بإعطائها دورا للقاهرة (بالتنسيق والتفاهم مع موسكو)، في التوصل إلى تفاهمٍ على "خفض التصعيد" بين المعارضة المسلحة والنظام في الغوطة الشرقية، ساعد عليها أن ثمّة خطوطا مفتوحة بين مصر وإيران. وثمّة منعرجاتٌ أكثر من هذه، الأردنية والفرنسية والسعودية، من قبيل حديث وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، صراحة، عن إمكانية القبول ببقاء الأسد، وهو الذي كان قد وصف الأخير بالإرهابي الأكبر. أما الاستدارة التركية، ذات التفاصيل العويصة، فيتقاطع فيها الصمت مع الغموض، مع إرسال الرسائل إلى غير وجهةٍ في اللحظة نفسها، مع شبكة رهاناتٍ حسّاسة، مع موسكو وطهران مثلا.
إذن، يجوز لبشار الأسد، في خطاب "التجانس" المخزي أخيرا، أن يشترط على الدول الراغبة بإعادة فتح سفاراتها في دمشق أن تنبذ الإرهاب أولا. ويجوز لنائبته، نجاح العطار، أن "تبشّر" بأن إعلان النصر سيتم قريبا، ما أن يكتمل تماما. وهذا النصر، بحسبها، هو على الدول المتآمرة التي ما شنّت "حربا كونية" (بتعبيرها) على سورية إلا لتصفية القضية الفلسطينية، كما سمع منها وفدٌ أهلي أردني قبل أيام في مكتبها في دمشق، وكأن حناجر السوريين التي هتفت، في كفر نبل وحلب ودرعا وحماة ودوما ودير الزور وحمص و..، بسقوط نظام الاستبداد، إنما كانت تبيع فلسطين في مزادٍ معلن. وقد قَدم الوفد المذكور، وضمّ كتابا ونقابيين وناشطين، إلى عاصمة الأمويين، ليكون أول المهنئين العرب لنظام الأسد بالنصر المرتقب إعلانه، ما أن تتسّع رقع خفض التصعيد أكثر، وتبدأ روسيا وإيران طورا جديدا من التفاهمات على شكل سورية وجغرافيتها ومضامينها، وما أن يُقيل المبعوث الأممي، دي ميستورا، نفسَه من مهمته، وقد تسلّى وقتا أكثر من اللزوم، وهو يحتال، مع الأميركان والروس، من أجل دفن قراراتٍ واضحة لمجلس الأمن، تدعم بيان جنيف 1، الداعي إلى تشكيل هيئةٍ انتقاليةٍ بصلاحيات كاملة تعقب خروج نظام الأسد من السلطة، وهو البيان الذي لم تصدُق إدارة باراك أوباما يوما (ولا خليفتها بداهة) في الزعم أنها تعمل من أجل إنفاذه. ومن أعاجيب دي ميستورا أنه اعتبر عقدة العقد في الأزمة كلها منذ ست سنوات إنما هي في تركيبة وفد المعارضة المفاوض، ولا حلّ لها سوى بضمّ فلان وعلان فيه، ممن يستطيبون بقاء الأسد رئيسا ما دامت صحته وعافيته لائقتين.
كأنما الشعب السوري، وهو يتابع الآن هذه المتواليات في غير عاصمة، وهي تهيئ لتقسيم بلده وتنويع خريطته، كأنه، وهو يعدّ الآن ضحاياه وشهداءه ومهجّريه، مثل البجعة التي تطلق تغريدتها الأخيرة، عن أحزانٍ وآلامٍ وأشواقٍ ومآسٍ وأفراحٍ مرّت بها.. تُرى، هل اقتربت تغريدة الشعب السوري الأخيرة، أم أن ضوْءا يلمع من بعيد.. بعيد، يلزمه وقتٌ أطول ليصل؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.