في تحولات الأزمة الخليجية

في تحولات الأزمة الخليجية

24 اغسطس 2017
+ الخط -
من المعروف في أدبيات إدارة الأزمات الدولية أن أي أزمة تظل على صلة وثيقة بطبيعة النظام الدولي القائم. ولا تشذّ الأزمة الخليجية الحالية عن ذلك، فلا شك أن بلدان الحصار قد جسّت نبض الدوائر المؤثرة في القرار الدولي، بغاية الحصول على ''ضوءٍ أخضر ما'' يسمح لها بتنفيذ أولى سيناريوهاتها، وهو التدخل العسكري في قطر.
بات هذا السيناريو مستحيلاً مع الإقرار الأميركي بصعوبة تنفيذ مطالبها، وصلابة موقف الأتراك بشأن قاعدتهم العسكرية في قطر، ما يعني أن صنّاع القرار في هذه البلدان لم يقرأوا جيداً التجاذبات الحاصلة في المنطقة، فاستمرارُ طهران في إدارة نفوذها المذهبي والسياسي بغير قليلٍ من الفاعلية، وتقاربُها الدال مع أنقرة، وغموضُ الموقف العسكري في اليمن، وإدارة الروس الجيدة تحالفاتهم الإقليمية في ضوء تحولات الحرب السورية، ذلك كله يعكس قصوراً استراتيجياً واضحاً لدى هذه البلدان، في إدراك قوة الفاعلين الآخرين ونفوذهم.
استعادةُ الروس جزءاً من أوراقهم في المنطقة، بعد أعوام طويلة من الانكماش الذي سببه تفكك الاتحاد السوفييتي البائد، تؤشر على توازناتٍ جديدة لم تأخذها في الحسبان البلدان الأربعة، ما يجعل الأزمة تدخل طوراً جديداً، قد تتحوّل معه إلى عبء سياسي يرهق كاهلها، لا سيما في ظل مؤشرات أخرى لا تقل أهميةً ودلالة.
فحين تحظى السعودية والبحرين بنصيبٍ غير يسير من الانتقاد في تقرير الخارجية الأميركية بشأن الحريات الدينية في العالم، فذلك لا يمكن أن يمر مرور الكرام، خصوصاً أن التقارير 
التي تصدرها واشنطن غالباً ما تحكمها حسابات سياسية. لذلك، لا يُستبعد أن يندرج انتقاد هذه الحريات في البلدين ضمن منظور أميركي محتمل لحلحلة هذه الأزمة على المدى القريب.
مؤشرٌ ثانٍ لا يخلو أيضاً من دلالة، ويتعلق بطلب السعودية وساطة عراقية لدى إيران للتخفيف من حدّة التوتر معها. وعلى الرغم من أن الرياض نفت الأمر، إلا أن تأكيد وزير الداخلية العراقي، قاسم الأعرجي، الأمر يثير، فعلاً، تساؤلات بشأن صفقة سياسية كبرى محتملة بين البلدين، خصوصاً في ضوء التطورات الميدانية أخيراً في اليمن، والمخاوف السعودية المتصاعدة من تشكل محور تركي إيراني قطري، يربك حساباتها ويخلط الأوراق أكثر في المنطقة.
يمكن أن يضاف أيضاً التقرير السنوي الذي أصدره أخيراً معهد بازل في سويسرا عن غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في العالم، وهو يكاد ينسف، بالمرّة، مطالب بلدان الحصار من أساسها، بعد أن سجلت قطر أفضل أداءٍ في منطقة الخليج، في وقتٍ حصلت فيه الإمارات على أسوأ أداء.
لا تترجم هاته المؤشرات، مجتمعةً، فقط تحولاتٍ واضحةً في مسار الأزمة، بل تعكس، أيضاً، 
إخفاق هذه البلدان في إحداث حالة سياسية ودبلوماسية تقلص هوامش المناورة أمام الدوحة. فما يحدث يجعل الأمور تنحو في الاتجاه المعاكس، حيث تتسع هذه الهوامش أمامها، بما يتيح لها أن تستخلص عائدات الأزمة إقليمياً ودولياً، بعد أن نجحت في الحد من فاعلية المطالب المقدّمة دبلوماسياً وسياسياً، وهو ما يبدو أن العواصم الأربع لا تنتبه إليه جيداً، في ضوء فقدان هذه المطالب الزخم السياسي والإعلامي الذي واكبها إبّان اندلاع الأزمة.
فالمحور السني المعادي لإيران، والذي تقوده السعودية، يتعرّض لتصدّع كبير، ليس فقط بسبب استثمار طهران الأزمة، وتوظيف امتداداتها لصالحها، ولكن أيضاً بسبب التخبط الواضح للسياسات السعودية في المنطقة، بعد الانسداد الذي وصلت إليه الأزمة السورية، والإخفاق العسكري في اليمن، وهزيمة "داعش" في العراق.
من هنا، فإن سيرورة الحصار المفروض على قطر لا تكتسي دلالاتها، إلا بوضعها ضمن مشهد إقليمي تختلط فيه الأوراق، وتُعاد فيه الاصطفافات والتحالفات، فإخفاقُ السعودية والإمارات والبحرين ومصر في حصر قطر في زاوية ضيقة ليس نهاية المشكلة. فحين يخسر طرفٌ بعض أوراقه في صراعٍ إقليمي، فذلك سيؤثر، بالتأكيد، على قدرته على الحفاظ على مواقعه في ميزان القوى والتحكّم في تحالفاته، الأمر الذي يبدو واضحاً في الأزمة الراهنة. فأي دور، مثلاً، ينتظر مجلس التعاون الخليجي، على اعتبار أن تأسيسه قبل ثلاثة عقود ونيف جاء في سياق محاولة دول الخليج محاصرة النفوذ الإيراني المتنامي بعد الثورة الإسلامية. وقد تحول هذا النفوذ الآن إلى شبكة إقليمية معقدة، تتداخل فيها حسابات المذهب والاقتصاد والسياسة، وتمتد على طول منطقة الخليج والشرق الأوسط. يتعلق الأمر، إذن، بتساؤل مركزي يواجه ساسة الخليج: أي أدوارٍ سيلعبها هذا المجلس حالياً، على ضوء ما أحدثته الأزمة الحالية من تصدّع في البيت الخليجي؟
نجحت الاستراتيجية القطرية في رهاناتٍ صعبة، أبرزها استبعادُ الخيار العسكري من أجندة بلدان الحصار، والحفاظُ على هامش معقول للمناورة، واستثمارُ تجاذبات الأزمة لصالحها. لكن هذه الاستراتيجية باتت، اليوم، في حاجةٍ إلى مداخل جديدة، تنصبّ، بالأساس، على تحديث مؤسساتها وهياكلها السياسية والقانونية، وتوسيع هامش الحقوق والحريات، وضخ مزيدٍ من جرعات الحداثة في بنياتها الاجتماعية والثقافية، بما يمكن أن يتحوّل، مع الوقت، إلى عامل مؤثرٍ وفاعلٍ في تفكيك قلاع التقليد الحصينة في منطقة الخليج.