الساسة وصافرة الكلب

الساسة وصافرة الكلب

23 اغسطس 2017
+ الخط -
ذاع صيت بعض من تخصّصوا في كتابة الخطابات السياسية، ليس ثمّة شك في أنّ الأمر يتطّلب امتلاك مهاراتٍ من طراز فريد. الكتابة للجماهير كالوقوف على خشبة المسرح، القواعد هي ألا تجرح شعور الجمهور بشكلٍ مباشر وبإمكانك التلميح دون التصريح.
يستخدم الساسة رسائل ضمنية عديدة في إطار مخاطبة الجمهور ولأغراض متباينة، قد تكشف عنها الأيام سريعًا، وقد تظلّ فتراتٍ طويلة طي الكتمان. وتعد "صافرة الكلب" إحدى التكتيكات التي يلجأ إليها الساسة في تمرير الرسائل الضمنية للجماهير؛ وهي لا ترتبط بقاعدة جامدة، وإنما تمتلك مرونة في الصياغة والتقديم وفقًا لمقتضيات الأحداث.
جاء استخدام مصطلح صافرة الكلب من حقيقة مفادها بأنّ الكلاب تُصدر أصواتًا لا تلتقطها أذن الإنسان الطبيعي، لاختلاف التردّد الذي تصدر به أصوات الكلاب عن التي تعالجها أذن الإنسان. من هنا، جاء التعبير المجازي صافرة الكلب في إشارة إلى أنّ بعضهم فقط من يراد بهذه الرسالة، وهو فقط من سيفهم هذه الرسالة، على الرغم من أنّ الرسالة ستُبثُ عبر الأثير وسيسمعها الجميع. تأتي هذه الرسائل الضمنية خارج نطاق قدرات رادار الإنسان العادي، وهو ما يسمح للسياسيين باستهداف مجموعات معينة من الجماهير وبلغة محدّدة جدًا.
في استراليا، وخلال التسعينات من القرن المنصرم، كانت الهجرة كابوسًا يؤرِّق الحكومة الأسترالية، كما أنها من أبرز التحديات التي تواجه الناخبين؛ مما ترتّب عليه استخدام مرشحين لاستخدام صافرة الكلب، عبر مصطلحات مشفّرة في أثناء الإشارة إلى قضية الهجرة. كان هؤلاء المرشحون يعزفون على وتر تخوُّف الناخبين من تفشّي ظاهرة الهجرة، وفي الوقت نفسه، لا يريدون إثارة حفيظة الأغلبية ذات التوجُّه الليبرالي. وقد استخدم رئيس الوزراء، جون هوارد، صافرة الكلب في الإشارة إلى بعض الأزمات التي شهدتها أستراليا، ثم ظهر المصطلح عام 2003 في انجلترا، ومنها إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 2005، ومنها انتشر المصطلح انتشار النار في الهشيم.
واحدة من أكثر أشكال استخدام صافرة الكلب في السياسة الأميركية تمثلت في توظيف المرجعيات الدينية في الخطابات السياسية؛ فالأميركيون الذين لا يعرفون الكثير عن الكتاب المقدس تمرّ عليهم الإشارات الضمنية مرور الماء على الصخور الصماء؛ فلا ينتبهوا إلى دلالاتها، في حين أنّ المتدينين منهم يجدون من خلالها أنّ السياسي يحترم قيمهم ويدعمها. استُخدمت مراجع الكتاب المقدس لتعزيز حملات قمع الهجرة غير القانونية، ودعم الحروب التي شنّتها الولايات المتحدة الأميركية.
في كتابها "التصويت من أجل يسوع- المسيحية والسياسة في أستراليا" الصادر في العام 2006، ذكرت الأكاديمية أماندا لوهري أنّ الهدف من صافرة الكلب هو استقطاب أكبر عدد ممكن من الناخبين، وتنفير عدد محدود منهم فقط؛ فكلمة القيم لها صدى إضافي عند المسيحيين مع تجنّب المسيحية الأخلاقية العلنية، وهو ما يغازل به السياسي الناخبين غير المسيحيين. ويرى المنظِّر السياسي، روبرت جودين، أنّ صافرة الكلب تقوِّض الديمقراطية؛ لأنّ الناخبين كان لهم فهم مختلف لما كانوا يدعمونه في أثناء الحملة، وبذلك فهم يدعمون شيئًا لا معنى له بالمفهوم الديمقراطي.
اتُهِم هوارد، طوال فترة ولايته الحادية عشرة، باستخدام رسائل ضمنية بطريقة صافرة الكلب، من خلال دعم حكومته الميول العنصرية مع الحفاظ على إنكار معقول من خلال تجنّب اللغة العنصرية العلنية. ولعلَّ هذا ما يفسّر التصريح الرخو الذي أصدره الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إثر اندلاع اشتباكات في مدينة شارلوتسفيل في ولاية فيرجينيا بين اليمين المتطرف ومعارضيهم. لم يشأ ترامب أن يعلن موقفًا صريحًا من الحادثة؛ فخرج تصريحه هشًا لا معنى له من منظور العامة، لكنه يحمل رسالة ضمنية يغازل بها البيض. تعرّض ترامب لانتقادات، حتى من بين الجمهوريين؛ فأعرب سيناتور فلوريدا، ماركو روبيو، عن أمله بـ "سماع الرئيس ترامب وهو يصف حقيقة ما جرى في شارلوتسفيل، وهو ليس إلا عمل إرهابي قام به من يؤمنون بتفوّق العرق الأبيض".
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)