آخ يا "دي تي"

آخ يا "دي تي"

22 اغسطس 2017

مشهد عام لوسط بيروت (15/3/2010/فرانس برس)

+ الخط -
لوهلةٍ، خلتُني في فيلم أميركي، ويسترن بالتحديد، في اللحظة التي يترجّل فيها البطلُ، راعي البقر، من على صهوة جواده، فلا يجد في لقائه إلا بعض الكلاب الداشرة في مدينةٍ مغبرة، ساكنة، فرغت من أهلها لسببٍ ينذر بسوء. والحال أنه لم يكن ينقصني سوى الجواد، وقبعةٌ تقيني شرّ الشمس الحارقة، وبعضٌ من كريات شوكٍ كبيرة تدحرجها الرياح. درتُ على نفسي، ونظرت إلى أعلى، العمارات فارغة، والنوافذ مغلقة نزولا إلى الطوابق الأرضية، حيث تتجاور محالُ مغلقة مع أخرى متدلّية اللسان. الفراغ سيّد المكان، وموظفو مقاهٍ مصرّة على فتح أبوابها لزبائن محتملين، يطردون الضجر والنعاس على الأرصفة حيث يقفون شبه مطويين. أنتَ، أعني أنا، واقفة في وسط D. T.. و"دي تي" تعني في لغتنا المستحدثة الداون تاون، كما باتت تدعى منذ إعادة إعمارها في وسط بيروت، وبعد طرد أصحاب المحال الصغيرة لصالح محال كبيرة: رولكس، شانيل، كريستيان لوبوتان، وسواها من الماركات الشهيرة عالميا المجتمعة في "الأسواق".
أصلُ إلى ساحةَ النجمة، أدور حول الساعة الكبيرة، تماما مثلما يدور الحمام الملتمّ حول قاعدتها بحثا عن كسرة خبزٍ، أبحث أنا عن أثر ناس. لكن، لا يأتي "الناس" إلى هنا، فقلب العاصمة لم يُبنَ لهم، كما يردّدون دامعين، متأسّفين على ذكرى تلك الأيام، حين كانت هذه المنطقة تحضن أهلَ البلاد القادمين إليها من كل حدبٍ وصوب. نحن لا نحبّ هذه الـ دي تي، يقولون، نحن حتى نخشى الولوج إليها، إذ تشعرنا أننا صغارٌ أكثر مما ينبغي، فإن عبرناها فعلنا على عجل، وخفر، كغرباء. ثيابنا لا تليق بها، ولا أحذيتنا الملتوية، وعيوننا تخجل من التفرّج على جنباتها. وإن غامرنا وجلسنا على حوافي كراسيها، ترانا منكمشين نتحسّس جيوبنا مرارا وتكرارا، مخافة ألا يكون محتواها في مستوى قنّينة الماء التي فُتحت لنا، من دون استئذان، بسبب بروتوكولٍ ما. أجل، ههنا يجتمع الأغنياء والسيّاح. لذا قلّما غامرنا بالمجيء، مكتفين بما توفره لنا الضواحي من فسحٍ ومغريات.
على الآرمات، تكثر أسماء الشوارع التي كانت ولم تعد، أسماء واتجاهاتٌ تفضي إلى ماضٍ مُحيت ظلاله كما تمّحي ألوان الصور العتيقة. إلى هنا، كانت جوليا تأتي لشراء أحذيتنا المدرسية، الشراريب التي تزيّن ستائر الصالون الزيتي، وما يرافقها من سجقٍ وبريم. هنا شاهدنا "الفيلم الهندي الذي أبكى الجماهير" و"بنت الحارس". وهنا خفتُ أن أضيع مرةً، حين واعدتني أختي الكبرى، لتعرّفني سرًا إلى حبّها الممنوع. كنت في الثانية عشرة من عمري. ركبتُ السرفيس وحدي للمرة الأولى، متجهةً إلى "سيتي سنتر"، حيث كان يجب أن ألقاها. كانت العتمة قد بدأت طريقها إليّ، والدموع أيضا، إذ كنتُ لم أتحسّب لطريق العودة. سرتُ خطواتٍ وقلبي يخبط قوياً، وساقاي تصطكان، لأجدها واقفةً على بُعد مع شابٍّ يقول لها ربما غيّرت رأيها ولم تأتِ. بلى، أتيتُ، صرختُ راكضةً والدموعُ تنهار من عينيّ، واللُعاب لا يأتي من شدّة الانفعال. لم أجده جميلا كما وصفتْ واستفاضتْ، كان في عينيّ عملاقًا وكان فيه شعرٌ كثير. هذا محمد قالت أختي، فابتسم وأخذني بين ذراعيه.
أنا في وسط البلد، آكل بوظة في شمامة صغيرة، وأتلفّت من حولي مسحورة. شبّان وشابات، باعة، زمامير، ولافتاتٌ مضيئةٌ غريبةٌ تعلو العمارات. أنا في وسط البلد، في القلب، في الشرايين، أمضغ سرّ أختي الخطير الذي لا ينبغي البوح به أبدا، فيأتيني وجهُ أبي حين يكسونا بنظراته. يا إلهي، لو اكتشف أبي السرّ، لطقّ ومات. أنظر إلى عيني أختي المغرمتين، تكادان لا يسعهما المكان. ألم يكن في وسعكِ اختيار اسمٍ آخر؟ محمد، هكذا، دفعة واحدة؟ لن أخبر أختي بهذا، سأقول لها فقط بأنه ليس بذاك الحسن، وأنه بعيدٌ كل البعد عن صورة روبيرت فاغنر، مثالي في الجمال.
نركب السرفيس مودّعتين عائدتين إلى البيت. تسألني أختي التي تكبرني بثماني سنوات: هه، كيف وجدتِه؟ "لذيذ" أجيبها مبتسمة، وأكتم غصّةً استبدّت بي. من النافذة الخلفية، أرى وسط البلد مبتعداً، ولا أدرك لحظتها أنها عشية دخوله في حروبٍ ستدوم قرونا.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"