أميركا التي لا يعرفها أحد

أميركا التي لا يعرفها أحد

18 اغسطس 2017
+ الخط -
لا تزال أميركا تعيش علي صفيح ساخن، منذ فوز دونالد ترامب بالرئاسة قبل حوالي عشرة شهور. ولا يزال التوتر والاستقطاب يمثلان أحد الملامح الجديدة للسياسة في أميركا، على خلفية الخلافات والتباينات السياسية والإيديولوجية بين مؤيدي ترامب ومعارضيه، والتي انتقلت أخيرا إلى الشارع، واستخدم فيها العنف، ووقع فيها قتلى وجرحى.
قبل حوالي أسبوع، تظاهر مئات من أعضاء اليمين المتطرّف والنازيين الجدد أو المتطرفين البيض كما تسميهم الميديا الأميركية في إحدى مدن ولاية فيرجينيا، من أجل إحياء ذكرى رموز أميركية كانت تدافع عن العبودية، وعن بقاء الانقسام بين شمال البلاد وجنوبها. وقد تصدّى لهم مجموعة من النشطاء اليساريين الرافضين لمنطق اليمين المتطرّف، بل ورفضوا تظاهراتهم من الأساس، ما أدى إلى اندلاع العنف بين الطرفين، فكانت النتيجة سقوط ضحايا من المدنيين والشرطة الأميركية. وكان سقوط الشابة هيزر هياي بمثابة نقطة تحول في مسار الصراع بين المتطرّفين البيض وخصومهم. وزاد من حدة الحادثة عدم إدانة ترامب ما حدث إلا بعد يومين من وقوعه، وقد دان بشدة اليمين المتطرف والنازيين الجدد. ولكن بعدها بساعات قليلة، خرج بتصريح آخر أشعل الغضب في نفوس كثيرين، حين لام الطرفين (المتطرّفين البيض وخصومهم) وحمّلهم مسؤولية العنف الذي حدث يوم السبت الماضي. وهو هنا يقوم ليس فقط بتبرئة اليمين المتطرّف من دماء هيزر، ولكنه أيضا يساوي بين القاتل والضحية، الأمر الذي أثار ضجة كبيرة لا تزال تداعياتها سارية.
حاول ترامب مسك العصا من المنتصف، حتى لا يُغضب أنصاره من المتطرّفين البيض، لكنه فشل. فقد بدا وكأنه منحاز لمنطقهم في العنصرية وكراهية الآخر. وهو أمرٌ، وإن كان من أحد خصائص ترامب، وتشهد بذلك تسريباته الكثيرة. وعلى مدار اليومين الأخيرين، انتشرت عمليات حرق الأعلام الكونفدرالية، وإسقاط تماثيل رموزها، سراً وعلانية، وذلك كما حدث في ولايات كارولينا الشمالية أو ميرلاند، لأنها تذكّر الأميركان بالتاريخ المشين للعبودية وللانقسام بين الشمال والجنوب.
هذا جانب من أميركا التي لا نعرفها، وبدأت تكشف عن أحد وجوهها القبيحة، وهو الانقسام والاستقطاب العنصري، بعد أن ظن كثيرون أن البلاد دفنت إرثها العبودي الشائن، ومضت نحو ترسيخ المساواة بين البشر المقيمين على أرضها. يستفيد اليمين المتطرّف من الغطاء السياسي الذي يوفره لها ترامب بخطابه العنصري المعادي، سواء لليسار أو للمهاجرين. وهو الذي قام بتعيين اثنين من كبار منظّري اليمين المتطرّف في البيت الأبيض، وهما مستشاراه ستيف بانون وستيف ميللر، ما يوفر شعوراً بالقوة والثقة لدى عناصر اليمين المتطرّف والنازية الذي يشعرون بأن الوقت قد حان لتنفيذ مخططهم بالتخلص من الأجانب، والوقوف في وجه محاولات اليسار والتقدميين ترسيخ المساواة في الولايات المتحدة.
لن يتوقف ترامب عن استخدام اليمين المتطرّف من أجل دعم قاعدته الانتخابية داخل دوائر الولايات المحافظة التي تبدو مقتنعةً به إلى حد بعيد. ولكن خطورة ذلك على السلم الأهلي تبدو كبيرةً، خصوصا مع امتلاك أميركيين كثيرين السلاح، ما يعني إمكانية اندلاع مناوشات جديدة. بل ذهب بعضهم بعيداً بالقول إن أميركا على شفا حرب أهلية جديدة حول مسألة الاختلاف العنصري وشعور المتطرّفين البيض بأن بلادهم تضيع من بين أيديهم لصالح المهاجرين.
هذه ليست أميركا التي عرفها العالم، باعتبارها ملجأ الفارين من مشكلات الكراهية والخوف والعنصرية، والحالمين بمستقبل أفضل لهم ولأسرهم. وأصبحت كما سمّاها ترامب، ولكن في سياق آخر، "دولة عالمثالثية".
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".