هل يكرّر حفتر أخطاءه في درنة؟

هل يكرّر حفتر أخطاءه في درنة؟

18 اغسطس 2017
+ الخط -
تعاني مدينة درنة في ليبيا الحصار، منذ أكثر من أسبوعين، فقد تمركزت في مداخلها الشرقية والغربية مجموعات مسلحة تتبع الجنرال خليفة حفتر، إثر إسقاط مجلس شورى مجاهدي درنة طائرة تابعة له، ولقي فيها الطيار الليبي عادل الجهاني مصرعه، وبعد رفض المجلس تسليم جثمان الطيار، حاصرت تلك المجموعات المدينة، ومنعت الغذاء والدواء عن أهلها. وعلى الرغم من تسليم المجلس المحلي وأعيان المدينة بعد ذلك الجثمان، إلا أن الحصار يبدو أنه سيستمر، وله سياقات أخرى جعلت المخاوف تتزايد من احتمال نشوب صراع دامٍ كالذي حدث في بنغازي، فهل سيتكرّر نموذج بنغازي في مدينة درنة؟ وما هي السياقات الاجتماعية المتشابهة والمختلفة بين المدينتين؟ كيف يمكن لإشراك المدنيين في الصراعات المسلحة أن يكون سبباً لتجذر العنف في المجتمع؟ كيف تستغل الأطراف السياسية هذا الصراع؟ وكيف واجه أهل المدينة ذلك الحصار؟ وما دلالات ذلك؟
تعاظمت المشاهد، وتشكلت السرديات الجهوية منذ بداية عملية الكرامة في بنغازي عام 2014، وصارت إمكانية تكرار نموذج بنغازي كابوساً يستعيذ منه الجميع، لأن المخيال الجامع ربط بين عملية الكرامة والصور المقيتة للجثث، وهي ملقاة في مكبات القمامة، وتختلط في المدينة كل يوم بقايا الطعام بأشلاء أبنائها من الدعاة والمشايخ والمتعلمين، في سياقٍ بعيد عن طبيعة الصراع السياسي، وعن كل معاني الإنسانية، فضلاً عن عشرات المشاهد المسجلة المألوفة لعمليات تصفيةٍ تشبه التي يقوم بها تنظيم الدولة الإسلامية، جديدها ما نشرته أغلب وسائل الإعلام لأحد معاوني الجنرال خليفة حفتر، وهو الرائد محمود الورفلي، والذي صدرت بحقه مذكرة توقيف من محكمة الجنايات الدولية قبل أيام.
استخدام المدنيين في الصراع المسلح، في ظل البطالة المتفشية في مجتمع فتي كالمجتمع الليبي (60٪ من المجتمع الليبي من الشباب) يعني أنك تشعل ناراً داخل هذا المجتمع، وهذا ما تجده في عشرات الحكايا عن التشفي والانتقام بين الأشقاء والجيران، وبين المناطق المختلفة، واستهداف قبائل وأصول داخل المدينة تحول معه الصراع إلى سياق اجتماعي خطير، تحول بعد ذلك العنف من صراع سياسي إلى عنف جمعي لا تزال بنغازي تعاني منه، وربما ستظل في هذه المعاناة عقوداً أطول.

وجود كتائب مسلحة تشعر بأنها قد أنجزت إنجازاً عظيماً بالقضاء على مجلس شورى بنغازي، على الرغم من استمرار الصراع، والسردية التي تحاول القنوات الإعلامية سردها، وهي أن هذه الكتائب خلصت بنغازي من شبح الإرهاب، جعل هذه الكتائب تشعر أنه يجب أن يكون لها الصولة والجولة في الشرق الليبي، ولأن الجنرال حفتر أعاد الأجهزة الأمنية السابقة لنظام معمر القذافي، وفتح السجون كسجن قرناده، وقد تحدثت عدة تقارير حقوقية عن القمع والتعذيب داخل هذه السجون، فإن هذه الكتائب تشعر بأنها جزءٌ من السلطة، ولها الحق في الاستمرار في خرق القانون، لأن هذا هو السبيل إلى الأمن.
في هذا السياق بدأ حصار المدينة، ومظاهر الحصار كثيرة، الطرق شبه خالية من السيارات، وأسواق الخضار واللحوم أقفلت تماماً، والتضخم صار أضعافاً مضاعفة، كما أن المحلات تعاني من الكساد، ولم تدخل الأموال إلى المصارف العاملة في المدينة، وغاز الطهو قد نفذ تماماً من المحطات داخل المدينة، ويمكن شراؤه بأسعار باهظة من المناطق التي تحاصر درنة، مثل منطقة عين ماره في الشرق ومنطقة مرتوبة في الغرب. يشتد الحصار على المستشفيات التي تحتاج إمداداً دائماً.
بدأ الحصار يزداد على أهل المدينة، وحذر المجلس المحلي للمدينة، مرات، من استمراره، وندّد المجلس الرئاسي به، وطالب بتجنيب المدنيين ويلات النزاعات السياسية، ووعد بإرسال المساعدات في أقرب وقت، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث، كما أن تصريحات المبعوث الأممي كانت خجولة تماماً تجاه درنة. وعلى الرغم من محاولات قنوات إعلامية تابعة لعملية الكرامة التي يقودها خليفة حفتر إلقاء التبعة على الكتائب غير المنضبطة، إلا أن المعلومات تؤكد أن أوامر صادرة باستمرار الحصار على المدينة، وبمحاولة إحداث نزاع داخلي يسهل عملية اقتحامها. ولم يكن مفاجئاً أن يقاوم أهل المدينة الحصار بطرق مبتكرة، فقد عرفت درنة عبر التاريخ بسكانها الذين ينحدر جزء كبير منهم من الأندلس، وكانت منارةً للعلم والمعرفة عبر تاريخها. لذا كانت مقاومة الحصار نموذجاً للكفاح اللاعنيف الذي قام به أهل المدينة، فقد أحجم المقاتلون عن قتال جيرانهم، خوفاً من تكرار الصراع المدمر الذي حدث في بنغازي، وحفظاً لحقوق الجوار. وحتى لا تنجر المدينة إلى العنف، اتفق المجلس المحلي والأعيان والمقاتلون والمؤسسات المدنية على السبل السلمية لرفع الحصار، وعملوا على إيصال أصواتهم إلى المنظمات الدولية، وبدأت مظاهر الكفاح تتنوع بشكل مثير.
نظراً لغياب وقود السيارات، قامت مظاهرة حاشدة استعملت فيها الدراجات جابت شوارع درنة، وضجت بها صفحات التواصل الاجتماعي، وكانت رسالة واضحة بأن أهل المدينة مستمرون في الحياة على الرغم من الحصار. وزع المزارعون في المدينة الخضروات والفواكه مجاناً
على أهل المدينة. وفرت مؤسسات المجتمع خطاً هاتفياً ساخناً للحالات الطارئة لتوفير سيارات يمكنها أن توصل المرضى إلى المستشفيات. قام أطباء في المدينة بالعلاج المجاني للمرضى، وأعلنوا أنه سيظل مجاناً طوال فترة الحصار. اتصل أهل المدينة في طرابلس والخارج بالمنظمات، ونشرت تصريحات عديدة من منظمات محلية، ومؤسسة التضامن المعنية بحقوق الإنسان في جنيف.
ما الذي سيستفيده خليفة حفتر من حصار مدينة درنة؟ وهل سيتكرّر نموذج بنغازي فيها؟ يمكن القول إن الصراع الذي بدأ تحت شعار محاربة الإرهاب في بنغازي، وامتد إلى إشراك المدنيين في الحرب بين الأطراف المتصارعة، قد فتح الباب أمام سردياتٍ جهويةٍ وقبليةٍ قد أججت صراعاتٍ محلية جهوية ضيقة، يصعب استجابتها للحلول السياسية المركزية، وأنه على الرغم من ظهور حفتر قائداً للمنطقة الشرقية، إلا أنه يصعب التصديق بأنه يملك كل مفاتيح الحل في المنطقة، لذا فإن الإشكال في ترويض تلك الكتائب أكثر من حسم معركة درنة، وأن الطريق أمام الجنرال حفتر للظهور داعماً للاستقرار في المحافل الدولية، ومحاولته الاستمرار في سيناريو العنف بين الحاشية المحيطة به في شرق ليبيا طريق مليء بالتناقضات، وسينتهي حتماً إلى صراع مدمر يخسر فيه الجميع.
سيستمر الصراع في شرق ليبيا ما لم يكن هناك إدراك للفِرية الكبرى بوجود قوات نظامية في المنطقة، وأنه إذا ما حدث ودخل حفتر مدينة درنة، فإننا أمام صراع طويل آخر قد ينشأ عنه نزوح آخر، وسيمتد الصراع، هذه المرة، إلى مناطق محيطة بدرنة، كالقبة والبيضاء ومرتوبة وطبرق. وسيفتح هذا مجالاً كبيراً لجماعات متطرفة في الظهور، وربما يكون هذا هو المقصود للاستمرار في الصراع، عبر إيجاد السردية المناسبة التي يستمر بها الجنرال في شرق البلاد، حامياً لليبيا من الإرهاب، وفارساً لمحاربة الإرهاب، نيابة عن قوى دولية تصر على تجاوز قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، بحجة السيطرة التي يمتلكها الجنرال حفتر على المنطقة الشرقية. وعدم إدراك تعقيدات الأزمة الليبية، والخوض فيها من دون فهم طبيعة ليبيا جغرافياً وتاريخياً، سيؤول بفشل كبير للأمم المتحدة وللمبعوث الجديد غسّان سلامة الذي يبدو أنه لا يملك أي مقاربةٍ يمكن أن تحدث نقلة للمشهد المعقد في الأزمة.